بصمت ومن دون ضجيج يذكر تمر الذكرى السابعة على رحيل واحد من أجمل أيقونات الثورة السورية المخرج والفنان “باسل شحادة”، الإنسان المفعم بالحياة وعاشق سورية الحرة.
حياة باسل الغنية بالنشاط والترحال والإبداع جعلت منه علماً بين أبناء جيله، ونشاطه السياسي والثوري جعله رمزاً للعمل السلمي بأرقى صوره، استشهاده في خضم الثورة التي حلم بها و ساهم في هبوب رياحها جعل منه أيقونة خالدة في ضمير ووجدان السوريين جميعهم.
كثيرون كتبوا عن باسل، أصدقاء وكتاب وصحفيون، مفكرون وشركاء في الثورة وفي الحب وفي الحياة، ممن كان لديهم الفرصة للتعرف إليه عن قرب وأخذوا جذوة من روحه سوف تبقى حية في قلوبهم وأرواحهم.
لن أتكلم هنا عن باسل الإنسان والرحالة والناشط السلمي والفنان المبدع والعازف والمصور، فمن عايش تفاصيل حياته وتجربته أقدر على ذلك، ولأن المجال لن يتسع للإحاطة بتجربته الإنسانية الغنية والاستثنائية بكل المقاييس، سأحاول أن ألقي الضوء فقط على باسل المخرج السينمائي وعلى تجربته السينمائية في فيلمين قصيرين يعدان من أهم أعماله.
تكشفت موهبة باسل مبكراً جداً في فيلمه القصير الأول “هدية صباح السبت”، ومن يتابع تجارب السينمائيين الشباب في سوريا في السنوات العشرين الماضية، سيعرف تماماً كم كان هذا المخرج متقدماً على جميع من عاصره من مخرجين، ذلك أنه تفرد بجمالية الصورة والكادر وانسجام التوليف وجمال الموسيقا التصويرية التي استخدمها بكل حساسية وحرفة وبساطة لغة السيناريو والحوار وعمقه وكثافة المشاعر الإنسانية بين الكلمات والمشاهد.
بدأ باسل في هذا الفيلم بتأسيس لغته السينمائية الخاصة في حين كان غيره وبتجاربهم الأولى في طور التقليد لأساليب سينمائية عالمية أو محلية.
استمد فكرة فيلمه القصير من شهادة حية لأحد أطفال لبنان الذي فقد أمه جراء قصف اسرائيلي على لبنان في صيف 2006، فجاء فيلمه وثيقة درامية مؤثرة عن هذه الحرب وما تركته من أثر في نفوس الأطفال.
يبدأ الفيلم بلقطات بطيئة غائمة التفاصيل للطفل متمدداً على سريره، مترافقة مع خلفية موسيقية لنغمات “أكسليفون” هادئ مشابه لهدوء ذلك الصباح.
قطع, يكتب عنوان الفيلم على الشاشة ثم ندخل إلى أجواء صباح ذلك الطفل بلقطات واضحة غنية بالنور ليخبرنا بكلماته الرقيقة والبريئة عن ذاكرته الجميلة وحبه لصباح يوم العطلة، لأن والدته تسمح له بالنوم إلى وقت متأخر.
تصور عدسة باسل الطفل بلقطات جميلة ومدروسة من زوايا مختلفة، ما يجعلنا نعيش معه تلك اللحظات الوادعة وندخل عالمه الجميل الهانئ بكوادر سينمائية غارقة بضوء وهواء ينسابان من شباك غرفته، مترافقة مع خلفية لنغمات “بيانو” و”غيتار” يعزفان بهدوء.
تتناوب اللقطات مع بوح الطفل لنا عن ذاكرته, لترسم لنا تفاصيل غرفة الطفل وسريره ووسادته ولعبته قدميه ويديه، وصوت أمه الحاني محاولة إيقاظه، ليقطع هذه التفاصيل الوادعة صوت طائرة حربية فيحاول الطفل إغلاق أذنيه عن الصوت المرعب، تنقلب الكاميرا بسرعة متناسبة مع صوت انفجار صاروخ وتدور بعنف في أرجاء الغرفة، لنكتشف في المشهد الأخير حريقاً يلتهم جزءاً من المنزل متزامناً مع صوت الطفل وهو ينادي أمه، ويخبرها أنه استيقظ علها تأتيه وتستجيب لندائه.
يختتم باسل الفيلم بلقطة ثابتة للطفل وهو يردد عبارة تفيد أنه بات يكره يوم العطلة وينظر في الوقت نفسه إلى كادر صورة له مع إخوته تغيب عنها صورة الأم التي فقدها في ذلك اليوم.
عمل سينمائي حيك بعناية وحس مرهف وشفافية لم تظهر فيه موهبته بوصفه مخرجاً موهوباً فحسب، بل أظهرت مقدرته كاتباً للسيناريو ومصوراً ومونتيراً متمكناً، وربما حتى صانع سينما له لغته السينمائية الشفافة المكثفة التي صبغت بقية أعماله على الرغم من قلتها.
في الفيلم الثاني “سأعبر غداً”، يستخدم باسل لغته الخاصة المكثفة التي بدأ بتأسيسها في فيلمه الأول، ولكن هذه المرة بفيلم تسجيلي من وسط صراع الموت والحياة في أحياء حمص المحاصرة بالحديد والنار، إذ ينقل لنا معاناة سكان هذه المناطق وصراعهم مع الموت الذي يتربص بهم في جميع الأرجاء، يحافظ باسل على بنية فيلمه الأساسية مهما قصر زمنه ومهما كان نوعه، بنية ثلاثية _ مدخل وسط نهاية _ مشدودة الأجزاء صريحة المقولة.
يبدأ العمل بمشهد ليلي في أحد أطراف أحياء حمص المحاصرة يسمع فيه صوت ينادي بصرخات الحرية فيرد القناص بإطلاق الرصاص، يحاول في هذا المشهد أن يخبرنا بطريقة سينمائية ساخرة مدى خوف السلطة الحاكمة من نداء الحرية بمقدار يفوق خوفها من حمل السلاح ضدها.
في المشهد الثاني ترصد الكاميرا تجربة تجاوز ضفتي طريق يتربص به قناص، أمتار قليلة قد تكلفهم حياتهم.
يقول له زميله قبل أن يقطعا الطريق: “توكل على الله إنت وحظك “، جملة على بساطتها توجز تحديهم الموت، وخوضهم معاً تجربة خطرة في سبيل الحقيقة وفداء لتوثيق لحظة من لحظات الخطر التي يعيشها المحاصرون.
ينتهي المشهد بسماع صوت رصاص قوي، ثم قطع باللون الأسود لننتقل الى المشهد الأخير الغارق بالسواد، وهو مشهد مؤثر يدخلنا في أجواء الموت والحزن والمأساة اليومية عن طريق تشييع مجموعة من الشهداء مترافقاً مع كلمات أغنية “ياما مويل الهوا” يشيع الشهداء ويشيع باسل نفسه ربما كونه قضى بعد أشهر من هذا الفيلم بقصف لقوات النظام على حي الصفصافة.
“سأعبر غداً” فيلم تسجيلي قصير بدقائقه الأربعة يعد من أروع الأفلام التي وثقت الحرب والثورة ويوميات الحصار وإرادة الحياة بألمها وسخريتها.
يعد هذين الفيلمين من أهم ما أنجزه باسل الذي خطفه الموت باكراً وهو في أوج عطائه السينمائي، لما يحملانه من لغة سينمائية كثيفة المعاني غنية التفاصيل والأحاسيس الإنسانية.
في تجربته القصيرة نسبياً قدم باسل لنا دروساً سينمائية ودروساً في التضحية والفداء، في سبيل تحقيق حلم الحرية وفي سبيل سوريا التي أحبها فأحبته واحتضنته في ثراها.
Sorry Comments are closed