في الحرب.. صورٌ مختلفةٌ لموتٍ واحد
نص: سليمان نحيلي
في الحرب ..
يتعلّمُ الأطفالُ الحساب جيداً
يَعدّونَ أنفسهم
قبل القصفِ .. وبعد القصف.
*
في الحرب..
تصيرُ السّماءُ نوافدَ
تهطل منها القذائفُ
وتصعدُ عبرها الأرواحُ
بعد أن يستتبَّ الدّمار.
*
في الحربِ..
يهزأُ الأطفالُ بنيوتنَ وتفاحته
يكتشفونَ قانوناً جديداً للجاذبيةِ..!!
صعودُ أرواحهم إلى السماء!!
*
في الحربِ..
نتقنُ التّمييزَ بين صفير الرّيحِ وصفيرِ القذيفةِ
عُمْرُ القذيفةِ أقصرُ
وكذلك أعمارنا..
الريحُ تصنع ثقوباً في جسدِ الهواءِ
كثقوبِ ناي..
أما القذيفةُ فتُحدث فجوةً كبركان.
*
في الحرب..
ينام ُ الصغارُ دون حكايةٍ ترويها الجدّاتُ
أو تحكي لهم قصصاً مختلفةَ الأبطال والأحداثِ
يسيل منها الدمُ والخوف والدّمارُ
يسألها الصغارُ:
أين أبطالُ حكاياتكِ تغيروا؟
تقول: كلّهم ماتوا ..
*
في الحرب..
تستقيلُ حروفُ الجرِّ من اللغةِ
لايلزمُ الرّصاصةَ (باءٌ)
كي تقومَ بعملها في الجسدِ
فالجريحُ اسمٌ يجرُّ ساقهُ
بفعلِ رصاصةٍ، لابباءِ الجرّ
وعلامةُ جرّهِ دمٌ يسيلُ ..
*
في الحرب..
يجدُ النحويونَ أمثلةً شتى للأفعالِ المتعدّيةِ إلى مفعولينِ و أكثرَ
– اخترقت رصاصةٌ غير طائشةٍ (طفلاً) و(أُمَّهُ) التي تحملهُ
و (صورةً) معلّقةً على الجدارِ لجدّهِ الميّتِ منذ أعوامٍ
فماتَ الجميع مرةً واحدةً
والجدُّ مرتانِ..
ولمْ تعطف الواو على الأُمّ والجدِّ
فالمعطوف على الإسم المعطوف، معطوفٌ مثلهُ
وعلامة عطفهِ الموتُ
هي واوُ الموتِ إذن..
لا واوُ العطف…
*
في الحربِ..
تحتَ الجدرانِ المكسورة الظَّهرِ على مرِّ القصفِ
قد تعثرُ على أُمٍّ عَاجَلَ رأسَها حجرٌ من حجارة بيتها؛
فماتت متشبثةً برضيعها الذي ألقَمَتْهُ ثديها عند اشتداد القصفِ
كي يهدأَ بكاؤهُ قليلاً
عندها تنتزعُ الطفلَ من حضنِ أمّهِ أو حضنِ الموتِ
وتمضي ..
وقد تعثرُ على الطفلِ ميتاً
وأُمّهُ على قيد الحياةِ والفجيعةِ..
صراخها -الثكلى- أعلى من صوتِ الحربِ
ويحدثُ أن تعثرَ على الإثنينِ معاً
ولا تعثرَ على الحياةِ..
هي القذيفةُ:
صورٌ مختلفةٌ لموتٍ واحد.
*
في الحربِ..
لا تُحابي القذيفةُ أحداً
صغيراً أو كبيراً
رجلاً أو امرأةً
غنياً أو فقيراً..
مشلولاً أو قادراً على المشيِ والهربِ
كلّهم سواسيةٌ عندها كأسنانِ الموتِ..
– ذاكَ منطقُ القذيفةِ في العدالة.
*
في الحرب..
نتدرّبُ على الخوِف
كما يتدرّبُ صغارُ العصافيرِ على الطيرانِ
وكما يتدرّبُ الطلابُ على الامتحانِ
ندرسُ خوفنا
نرتّب خوفنا
فلكلِّ مقامٍ خوف…
*
في الحصارِ..
والحصارُ حربٌ يُعسكرُ فيها الجنودُ على التّخومِ
لا يرمونَ المُحاصَرينَ بالقذائفِ والنارِ
يرمونهم بالجوعِ والوقتِ..
*
في الحصارِ
والحصارُ حربٌ صامتةٌ كفيلمٍ صامتٍ
يؤدي الجنودُ فيه دورهم بصمتْ
ويموتُ المحاصَرونَ جوعاً بصمتْ ..
*
في الحصارِ
يُغمدُ الوقتُ سيفه في غمدهِ
يمرُّ بطيئاً …
متحلّياً …… بالرَّويّةِ على غير عادتهِ
فلا تخشى أن يقطعَكْ ..
*
في الحصارِ
يصيرُ الوقتُ من جوعٍ
ويقطعُ الرّغيفُ الهشُّ سيفَ الوقتِ
أو سيف الموتِ..
*
في الحصارِ
لايموتُ الأطفالُ مضرّجينَ بدمائهم
تحسمُ المعدةُ الخاويةُ الحربَ
فيموتونَ مضرّجينَ بجوعهم
وينتصرُ الجوعُ الكافرُ..
*
وفي الحصارِ
لا تنهارُ فقط البيوتُ والجدران..
ينهارُ الإنسان..
*
في الحربِ
وعند مجيء الليلِ
نُشعلُ قناديلَ الخوفِ..
ونطفئُ قناديلَ البيتِ
تشربُ النوافذُ العتمةَ وتنام..
مخافةَ أن تبصرَنا القذائفُ ساهرين..
فتأتي لتسهرَ معنا
ويكون عشاءٌ أخيرٌ.
*
في الحربِ
يتّكئُ جدارٌ على جدارٍ
يبثّانِ بعضهما ذكرياتِ زمنِ الوقوفِ قبلَ الغارةِ
يتهاديانِ ما عُلّقَ عليهما
من صورِ أهل البيتِ
الذين رحلوا بعيداً عن الحربِ
أو رحلوا في الحربِ
ويتبادلان طعمَ البارودِ وطعمَ الدّمِ وطعمَ الغبار….
*
في الحربِ..
يحدثُ أن تسمعَ نحيباً
من صوبِ الجدرانِ التي انتُشلت من تحت ركامها جثثُ عائلةٍ
وشجرةُ ياسمين
تقتربُ .. تظنُّ عالقاً ما تحت الرّكام .. ما زالَ..
تقتربُ .. تنادي..
يأتيكَ صوتٌ:
ليتنا بقينا حجارةً في البرّيّةِ
وما كنّا يوماً جدرانا..
*
في الحربِ..
لا حاجةَ لدفنِ القتلى
القذيفةُ تتكفّلُ
بهدمِ البيتِ
وقتلِ ساكنيه..
ودفنهم.. دفعةً واحدة..
*
في الحربِ..
وعند اشتداد القصف ..أعني الموتَ
يهرعُ الكلّ للهربِ نحوَ جهةِ النجاةِ
فيما طفلةٌ تعجزُ عن اللحاقِ بالهاربينَ ..تصيحُ:
لاتتركوني …
انتظروني ..
فأنا أمشي على ساقينِ من خشب.
*
في الحربِ..
يحفر الجنودُ كثيراً من الحفرِ
لا يزرعونَ أشجاراً
ولايؤسسونَ بيوتاً !!
يُعدّونَ خنادقَ للقتالِ
ويُعمّرونَ القبور.
*
في الحربِ..
يخاف الجنديُّ الأسرَ أكثرَ من الموتِ
فعندما يُحاصَرُ
يزجُّ بصدره في مرمى نيرانِ الأعداءِ
لذا يحتاجُ الجنديُّ جرأةً أكثرَ من جرأة قتلِ العدو..
ويحتاج العدوُ حكمةً أبلغَ من غريزةِ القتلِ
المتربّصةِ بين السّبّابة والزّنادِ
كي يفوز بعدوّهِ أسيرا.
*
أثناء القصفِ
يلوذ الناسُ وأيديهم فوقَ رؤوسهم،
يحدثُ في الحربِ
أن تَلِدَ امرأةً طفلاً
يداهُ فوق رأسهِ.
*
في الحربِ
يحمدُ الناسُ اللهَ على الجوِّ الغائمِ
ليس من أجل الزّرعِ
فلا زرعَ في الحرب إلا للحقدِ والألغامِ
ولاحصادَ إلا للأعمارِ
ولكن.. كي لا تُبصرهم الطائرات عند الغارةِ.
*
في الحرب..
يؤلمني انهيارُ بيتي
لكنْ..
يُؤلمني أكثر
أن ْ تغادرَ جوقةُ العصافيرِ
حبلَ الغسيلِ في باحةِ الدّارِ
حبلُ الغسيل الذي كان يرسمُ قوساً يتدلى في الهواءِ مِنْ تزاحمِ العصافيرِ ساعةَ القيلولةِ
تبتغي ظلاً أوفتاتَ خبزٍ – كانت نثرتهم أمي كالعادةِ – أو رشفةَ ماءْ.
*
في الحرب..
تُقصفُ المنازلُ بالرّغمِ مِن أنها اعتزلتِ الحربَ
وظلّتْ واقفةً على الرّصيف.
*
في الحربِ..
أبٌ يحضنُ طفله الذي قضى في القصفِ ويبكي …
وأُمُّ تغيبُ في عويلٍ متفجّرٍ
أعلى من صوتِ المدافعِ
وأرهبُ من صمتِ الموتِ
بحنوٍّ تمتدُّ يدُ الأب
تُصلحُ الطاقيّةَ الصّوفيةَ على رأس الطفلِ
خوفاً عليه من البردِ
مع أنهُ ميْت..
تضعُ الشظيةُ حدّاً للحياةِ في الحرب
لكنْ .. لاتضعُ حدّاً للأُبوّةِ!!
*
في الحرب..
يتسابقُ الكلُّ للقتلِ..
والكلُّ للنجاةِ.
*
في الحرب..
لا وقتَ كي نحزنَ كثيراً على من مات ..
*
في الحرب..
ندفنُ قتلانا على عَجَلٍ ونمضي
إلى موتٍ آخر
أونجاةْ ..
ثم نمضي…
*
في الحرب..
لا تُخطئكَ الرّصاصةُ إلا لتصيبَ أخاكَ..
أنتَ في الحالين ميتْ.
*
في الحرب..
قد تُولدُ ألفَ مرّةٍ
لكن.. لن تموتَ إلا مرةً واحدة..
لذلكَ
لاتمتْ قبلَ أوانِكَ..
– العناصر الدّاخلةُ في التفاعلِ هي ذاتها الخارجة عن التفاعل
هكذا قال لنا معلمُ الكيمياءِ عندما كنّا في المدرسة..
= إذن لماذا يدخل الناسُ الحربَ أحياءً ويخرجونَ بلا أرواحٍ أو بلا ساقٍ أو يدٍ أو عين؟!
كذبتَ علينا يامعلّمٌ.. كذبت..
وبتُّ منذ نشوبِ الحربِ أكرهُ كلّ المعادلاتِ في الكونِ
عدا معادلةَ الياسمين.
*
في الحرب..
يُدرّبُ الجنودُ على القتلِ
ولايُدرّبونَ على التقاطِ رسائلِ الوردِ والغيمِ
لذلك عندما يموتُ الجنودُ
يزرعونَ على قبورهم الوردَ
ويُغدقونَ الماءَ
– ذاكَ ما كان ينقصهم في الحياة..
كي لا يكونوا قاتلين.
*
في الحرب..
تنقلُ عدسةُ الكاميرا كلَّ شيءٍ عن الحربِ
ولاتنقلُ شيئاً عن المصوّرِ.
*
في الحرب..
تبثُّ كلُّ القنواتِ الموتَ
وتكتبُ أعلى الشاشة (live)..
حياة!!!!
فجأةً.. توقّفَ البثُّ
دمٌ على العدسةِ!!
ماتَ المصوِّرُ.
*
في الحربِ..
عندما يُحصونَ القتلى
يُسقطونَ من تبقّى بعدهم:
الآباءَ.. الأمهات.. الأولاد.. الزوجات.. الحبيبات.. الأخوة.. الأخوات .. والأصدقاء..
يُسقطونهم من عِدادِ الأمواتْ.
*
في الحرب..
لماذا لا يستشيرُ المتحاربونَ الحربَ في شؤونها؟؟
ربما تقولُ: انتهيتُ!!
*
في الحرب..
يضيقُ العشّاقُ ذرعاً بالحربِ
والورودُ ذرعاً بالمواعيدِ المؤجّلةِ
قد يخجلُ الذّبولُ من الوردِ
فيأتي على مَهَلٍ
لكنْ لايخجلُ الموتُ!
ربما يفترقُ العشّاقُ في الحرب أو يموتونَ
لكنْ لايموتُ العشقُ.
*
في الحربِ..
أحاولُ أن أخيطَ طرفي سمائكَ يا وطني
أَدْرأ عنكَ الصواريخَ والبراميلَ المتفجّرةَ
عندما تُغيرُ الطائرات ..
أعلمُ يا وطني
أنّ كلماتي لن تنهيَ هذي الحربَ لكنّي حين أكتبُ
أُحاولُ أن أنتصرَ على الموتِ
أُحاولُ أن أكتبَ حرفاً للحبِّ
وحرفاً للوردِ
وحرفاً للحياة …
عذراً التعليقات مغلقة