ليست ما سُميت، افتراءً على التاريخ، وزعمًا على القرن، باسم صفقة القرن، إلّا محاولةً من أوساطٍ متطرّفة في اليمين الصهيوني المتغلغل حاليًا في الإدارة الأميركية لفرض المشكلة ذاتها بوصفها حلًّا. ووفق العقل المستهبِل والصفيق في الوقت ذاته، الذي تمخض عن هذه الأفكار، فبما أن منطق التطوّر في منطقتنا يقود إلى الأسوأ، وهو قانون يعتقدون أنه واضحٌ للجميع، من الأفضل للضحايا، أو من يعينون أوصياء عليهم، ليس التمسّك بالظلم القائم باعتباره أهون من الظلم القادم فحسب، بل منحه شرعيّة قانونية وتاريخية.
لن تلقى هذه الصفقة المزعومة، المؤلفة من مجموعة أفكار غير مترابطة، تتباهى بأنها تصف الوضع القائم كما هو، متنازلة عن تغييره، موافقة أي فلسطيني، ولكنها مع ذلك مهمة، لأنها تشكل تحولًا في الموقف الأميركي الداعم أصلًا لإسرائيل، ليصبح هو ذاته موقف اليمين الإسرائيلي المتطرّف. وسوف تحتاج أي إدارة أميركية قادمة إلى وقتٍ لإصلاحه مستقبلًا. والأهم من ذلك أنها منحت إنجازاتٍ لليمين الصهيوني، متمثلًا بحكومة نتنياهو إنجازاتٍ لم يتوقعها: أهمّها اكتساب شرعيّة دولية أكبر لضم القدس، وتوسيع الاستيطان، وربما الحصول على اعتراف أميركي بضم بعض الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل، وإزاحة موضوع اللاجئين عن الطاولة رسميًّا.
ولا شكّ في أنّ اليمين الأيديولوجي الصهيوني الذي يُشكل نواة صلبة للحكومات الإسرائيلية في العقود الأخيرة، والمتنفذ حاليًّا في عمليّة صنع القرار بشأن الشرق الأوسط في الإدارة الأميركية، ينسب أهمية استراتيجية ومبدئية كبرى لهذه الإنجازات، ولا سيما شطب ما سميت في اتفاقيات أوسلو “قضايا الحل الدائم”، ألا وهي اللاجئون والقدس والحدود بما فيها مسألة المستوطنات، وتآكل الموقف الدولي بشأنها. أما السياسيون، مثل ترامب ونتنياهو وأضرابهما، الذين يجمعون بين المواقف اليمينية المتطرّفة والانتهازية السياسية مع رجحان للأخيرة، فيجدون في ذلك فرصةً سانحةً لتحقيق إنجاز أمام جمهور ناخبيهم، وتعزيز موقع إسرائيل على الساحة الدوليّة، وإضعاف الفلسطينيين في عمليّة التفاوض، فقيادة السلطة الفلسطينية التي أوقفت المفاوضات تفاؤلًا بموقف باراك أوباما الابتدائي، عند تسلّمه منصب الرئاسة لمناهضة الاستيطان علنًا، والذي ثبت أنه بلا أسنان، تجد نفسها أمام رئيس أميركي لا يكتفي بالتراجع عن هذا الموقف، وإنّما يُشجّع الاستيطان علنًا، ويُغلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ويُوقف المساعدات، ويعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل بنقل السفارة، ويُلغي الاعتراف الأميركي بقضية اللاجئين عبر وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. وهذه كلّها خطواتٌ اتخذت قبل الإعلان المنتظر عن صفقة القرن. ربما تقوم إدارة أميركية قادمة بمراجعة هذه الخطوات، هذا إذا خلّص الناخبون الأميركيون العالم من ترامب. ولكن سيكون من الصعب على أي إدارة أميركية مراجعة كل هذه المواقف دفعة واحدة، ولا سيما أنّ بعضها يحظى بأغلبيّةٍ في الكونغرس في إطار السياسة الداخلية، وكان البيت الأبيض الحاجز أمام تنفيذها فعلا على المستوى الدولي.
جرى عمليًّا تنفيذ صفقة القرن في ظروف ضعف المعسكر المعارض للسياسات الأميركية الإسرائيلية في المنطقة، بسبب ضعف الأنظمة وأزماتها العميقة، وصراعاتها الداخليّة مع مجتمعاتها وشعوبها، وأداتية استخدامها قضية فلسطين، ما أدى إلى انفلات الموقف العربي التابع للسياسات الأميركية في المنطقة من عقاله تمامًا بعد الثورات العربيّة. وأصبحت هذه الأنظمة أكثر ارتباطًا بأميركا، لأنها تصارع على وجودها، ولقناعتها بضرورة التحالف مع اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، إلى درجة العلنيّة، كما تفعل الإدارات الحالية في دولة الإمارات والمملكة العربيّة السعودية، ولأنها تعتبر إيران هي الخطر الرئيس، وإسرائيل حليفًا في الصراع معها.
سهّل هذا التغيير في الأوضاع العربية عملية إجراء هذا الانزلاق الإسرائيلي الراديكالي في السياسة الأميركية المنحازة لإسرائيل، والداعمة لها أصلًا، وإنّما أيضًا لتنفيذه من دون حسابٍ لأي مقاومة عربيّة تُذكر، بنقل السفارة إلى القدس ووقف التمويل عن وكالة الغوث والامتناع عن أي موقفٍ نقدي لتوسيع المستوطنات، والاعتراف بضم الجولان إلى إسرائيل، إذا تجاهلنا بعض البيانات الهزيلة الصادرة عن اجتماعاتٍ عربيّة أكثر هزالًا. لم تقم الأنظمة العربيّة، بما فيها السلطة الفلسطينية، بأي خطوةٍ حقيقيّةٍ تعترض على هذه الخطوات.
سبق أن قلت، في موضعٍ آخر، إنّ أفكار صفقة القرن نفّذَت وتُنفذ عبر إضفاء الشرعية والاعتراف بما حققته إسرائيل بالقوة. وانتظار الإعلان عن صفقة القرن عبثٌ وتلهية للناس عما يجري فعلا. لأنّ الأفكار المنتظرة قد حلت فعلا في ربوعنا، ولم تترك حجرًا على حجر فيما تسمى عمليّة السلام. لقد سنحت الفرصة لشابٍ غني مُدلّل غير مُجرّب، وعديم الاطلاع، ويحب إسرائيل ومعجب بنتنياهو، صاهر شخصًا أصبح رئيسًا بمفارقة، أن يعبث بمصائر دول المنطقة وشعوبها، ويهدي ما شاء من أراضيها لإسرائيل. وهي صفاقةٌ لم يعرف مثلها القرن، ولن يعرف، وتستحق أن تسمى صفاقة القرن. وقد شغل هذا الشخص وسائل الإعلام والشعوب ونخبها بغموض الأفكار وبموعد الإعلان عنها، مع أنّه بوشر بتنفيذها فعلًا. ولم يبق منها ما يستحق الانتظار.
ربما بقيت بعض الأمور لم يُعلن عنها بعد، إلّا أنّ مجسّات أنظمة حسّاسة، مثل النظام الأردني، تدركها قبل غيرها وتُدرك خطرها، من نوع إسقاطات شطب فكرة الدولة الفلسطينيّة، وهذا بحد ذاته خطر بالنسبة للأردن، فضلا عن محاولةٍ ممكنةٍ للضغط عليه أن يلعب دور الدولة التي تشكل الإطار السيادي للسلطة الفلسطينية، أي إدارة الحكم الذاتي في مناطق مكتظة السكان في الضفة وضم الأراضي الأخرى لإسرائيل، وكل القضايا الأخرى المتعلقة بتبادل الأرض.
من نافل القول إنّ الشعب الفلسطيني والشعوب العربيّة لا ترضى بالوضع القائم، فضلًا عن القبول به بوصفه حالة شرعية قانونيّة، أي باعتباره ناجمًا عن اتفاقٍ مع إسرائيل. ولكنّ المسألة متعلّقة بمصائر الرفض في السابق وديناميكيات ما يُسمى الوضع القائم وما يُنتجه. والحلقة الناقصة هنا هي رد الفعل الفلسطيني القادر على فرض الموقف على أجندات الأنظمة العربيّة، وبقيّة دول العالم المندهشة من تحرّكات صهر الرئيس الأميركي وأفكاره العبقرية.
السلوك الفلسطيني منذ الانتفاضة الثانية راضٍ بالأمر الواقع عمليًّا، وإنْ عارضه نظريًّا في الأروقة الدبلوماسيّة، فقيادة السلطة الفلسطينيّة الحاليّة تعتبر تأسيس السلطة بحدّ ذاته إنجازًا تاريخيًا عظيمًا بمؤسساتها ومئات المناصب ومئات آلاف الوظائف المدنيّة والأمنيّة. ولا تريد أن تُجازف به عبر أي نوع من المقاومة. وهذا هو مختصر الموقف الحالي، إنها سياسات سلطةٍ قامت من دون دولة، وطوّرت مصالح تبرر الحفاظ على الذات من دون أن تقوم الدولة، يُضاف إلى ذلك أنه نشبت في ظلّها صراعاتٌ على السلطة أدّت إلى شرخٍ عميق داخل الشعب الفلسطيني.
والحالُ أنّنا غير متفقين على هذا التقييم، فبعضنا يرى أنّ “هذا الإنجاز التاريخي” عائق رئيس يحول دون تحقيق الشعب الفلسطيني تطلّعاته. وقد انقسمت على أثره القضيّة الفلسطينيّة إلى قضايا مختلفة، إذ أصبحت قضيّة اللاجئين مجموعة ظروف منفصلة (أحياء فقر وهجرة وغيرها) تجري معالجتها (وللدقة لا تجري) خارج السياق الفلسطيني، ونشأت قضية الحصار في غزة وانشغال سلطتها بتأمين وسائل العيش، وترقب العدوان الإسرائيلي القادم، وقضايا السلطة في الضفة الغربية والتنسيق الأمني الذي تقوم عليه علاقتها مع إسرائيل وتسقط، وقضية القدس. أما الكيان الفلسطيني الذي كان يجمع هذه القضايا وغيرها تحت عنوان قضية فلسطين، وهو منظمة التحرير، والذي كان من المفترض أن يقود التصدّي لما تُسمى صفقة القرن، ويضع استراتيجية مواجهتها من دون اعتباراتٍ متعلقة بالحفاظ على السلطة، فمُغيّب ومُهمّش. لقد جرى إخضاعه للسلطة الفلسطينيّة في الضفة الغربية، وهذا الإخضاع لمنظمة التحرير للسلطة وأولوياتها هو بمثابة اغتيال غير معلن.
كل الثرثرة والكلام حول صفقة القرن لا تعني شيئًا إذا تجنبت الموضوع التالي: كيف يواجه الشعب الفلسطيني (والمقصود قياداته وقواه السياسية) صفاقة القرن هذه؟ فلن تواجهها الأنظمة العربية المطبّعة مع إسرائيل، ولا الأنظمة المنشغلة في صراعاتها الداخلية، كما لن تفعل أوروبا أو غيرها ذلك من أجلنا.
عذراً التعليقات مغلقة