يا صاحبيّ السجن

زكريا ملاحفجي9 مايو 2019آخر تحديث :
زكريا ملاحفجي

طالما أنك ولدت في الشرق الأوسط وتحديداً في سوريا، فهذا يعني أنك تعيش وسط مجتمع متألم لا يخلو بيت فيه من معتقل أو شهيد أو مُهجر، وطالما أنك سوري فأنت منذ 60 سنة لم تشعر بحياة كالحياة التي يحياها الناس في مناطق وجغرافيا أخرى في العالم، ليس هذا وحسب بل أصبح أدب السجون جزءاً من الروايات التي نسمعها صغاراً في مجالس الكبار ثم كتباً لمعتقلين سابقين يروون لنا حياتهم اليومية خلف القضبان ثم إلى فقدان أخوة لنا تباعاً يرحلون إلى تلك الغرف المظلمة المخيفة التي طالما رووا لنا عنها، وكما قال الشاعر:

إنَّ الرَزِيَّةَ لا رَزِيَّةَ مِثلُها. فِقدانُ كُلِّ أَخٍ كَضَوءِ الكَوكَبِ

فمن منّا لا يعرف وهو بسنين التحصيل قصيدة هاشم الرفاعي:

أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني والحبلُ والجلادُ ينتظراني
هذا الكتابُ إليكَ مِنْ زَنْزانَةٍ مَقْرورَةٍ صَخْرِيَّةِ الجُدْرانِ
لَمْ تَبْقَ إلاَّ ليلةٌ أحْيا بِها وأُحِسُّ أنَّ ظلامَها أكفاني

قرأنا عن مانديلا وعن بيجوفيتش وعن كل المناضلين في كل نواحي في الحياة ضد التمييز العنصري أو ضد الاحتلالات والظلم لكن حقيقة ما رأيناه وشاهدناه يفوق كل ما قرأناه وسمعناه ليس تقليلاً من شأن العظماء ولكن حقيقة في منطقتنا عموماً وفي هذه الأمة عظماء كبار لم تنتشر أسماؤهم ولم يذع صيتهم لكنهم قدموا سنين عمرهم من أجل العدالة و الحرية والكرامة ليس من أجل أنفسهم بل من أجل شعبهم وأوطانهم .. وأعتقد أن هؤلاء هم الأبناء البررة للأوطان والسجانون هم أبناء الوطن العاقّين، وربما تتساءل هل كلا الطرفين شرب من ماء واحد ونشأ أحياناً في حي واحد؟ّ!

فعندما تقرأ خمس سنوات وحسب لهبة دباغ التي ختمت كتابها: “لا أتخيل نفسي بعد تسع سنوات من السجن والعذاب والأمراض الجسدية والنفسية، تأتي لحظة الحرية، فأشعر بالضياع لا أدري أين أذهب، فأهلي جميعهم قتلوا إلا ثلاثة من أخوتي هاربين من جحيم الوطن، وعائلة نصفها يعملون لصالح مخابرات النظام! إنه الألم في أقسى صوره”.

وعندما تقرأ القوقعة لمصطفى خليفة المسيحي المتهم “اخوان مسلمين” أو تدمر شاهد ومشهود وهو من أوائل ما قرأت في أدب السجون .. عندما يقول مصطفى خليفة “من هو أول سجين في التاريخ؟ من الذي اخترع السجن؟ … كيف كان شكل السجن الأول؟ هل هناك سجين واحد في كل العالم، في كل الأزمان، في كل السجون، قضى في السجن عاماً واحداً أو أكثر، ثم عندما يخرج يكون هو…هو؟”.

أو كتاب الزنزانة رقم 10 لأحمد المرزوقي ”نعم، كانت معنوياتنا قد نزلت إلى الحضيض، وكانت أغلى أمنياتنا هي أن نموت موتة فجائية تقينا أهوال الاحتضار الطويل البطيء الذي كان فيه السجين يتقلب إلى جيفة مهترئة يتكالب على نهشها البعوض والذباب وأنواع لا حصر لها من الحشرات الطائرة والزاحفة!.

أو تسمع من ميشيل كيلو قصة الطفل الذي ولد في السجن ولا يعرف سوى السجن فهو لا يعرف العصفور ولا الشجرة و لا السماء ..!!! وصاحب كتاب تلك العتمة الباهرة الذي يقول: “أدركت أن تبديد وجع لا يتم إلا بتخيل وجع أشد ضراوة منه وأشد هولاً”

أتذكر مثلاً اثنين كانا معي في مقاعد الدراسة أحدهما (ح.ع) من حلب والآخر (ع.ا) من ريف حلب كانا بمنتهى اللطف لكن يملكان نفساً حرة ورأي حراً، دفع الأول إحدى عشر سنة في السجن ومات معه في السجن عشرات، لم يكتب مذكرات لكنني أذكر حديثه عن الاعتقال ومراحله والتعذيب وصوره، حيث تشعر أنك تشاهد فلماً مرعباً لكنه حقيقة وواقع .. ربما لا يتصور العقل ذلك لكنه حصل في تلك العتمات المظلمة، وعندما يحدثني عن الناس التي ماتت تحت التعذيب كانوا يطلبون منه رفع الجثث وتحميلها وكأنها أكياس وليست أجساد، إنه إنسان له ابن أو ابنة وأم وأب! والآخر سجنوه ثم قتلوه وكأنهم يقتلون عصفوراً، وأذكر عندما زرته في تدمر بعد جهد كبير كيف كانت حالته شعرت أنه ينتمي لعالم آخر تعيش فيه وحوش وليس بشر.

إذا كان مانديلا قد اعتقل 27 سنة فإن أحد الأصدقاء ممن تعرفت عليه (ع.م) وهو الآن في الستينات اعتقل 27 عاماً متواصلة و6 سنوات متفرقة والمجموع 33 سنة!

كم مانديلا رأينا وكم سنرى؟ إن من أغرب ما حدثني به هؤلاء الزملاء أنهم رأوا في السجن معهم سجيناً رأى مناماً تحدث به لأصحابه فأزعج السلطات! ليست طرفة بل هي حقيقة.. حقيقة عشنا مع أدب السجون ولا زلنا ولا أدري إلى متى سنعيش مع تلك الروايات التي خطتها الدموع لتسجل ذكريات ولحظات ليس فيها قصة حب أو لحظات سعادة وإنما فيها دم ودموع ونار…

أحياناً يجول ببالي هل قرأ المستبدون يوماً شيء من هذه المذكرات؟ وهل يا ترى يشعرون بكم التوحش الكبير الذين هم سببه؟ لهذا أقول لا يمكن لعاقل وإنسان يحمل بين جنبيه قلب إنسان وإنسانية أن ينسى هؤلاء الأبناء البررة ويسعى لتخليصهم من أيدي هؤلاء العاقّين.

حقيقة عندما تنظر لحال من لا شعور ولا إحساس لديه بمن يقبعون داخل السجون تعرف عِظم المسؤولية والواجب الملقى على من لديه ضمير ليفكر بهؤلاء المستضعفين ليكتب عنهم ويرفع صورهم ويسعى ليله ونهاره لعل الإنسانية توقف يوماً هذا التوحش، ولعل في منعطفات الأروقة الأممية تجد ولو ضوءاً ينعكس يوماً على تلك الحجر المظلمة التي تحوي الأجساد المتعبة المعذبة، وكم الأمانة كبيرة أمامنا جميعاً تجاه أبناء هؤلاء وأسرهم فأغلب أسر هؤلاء أسر منسية!

وفي الختام الحرية والسلامة لكل معتقلي الرأي فصاحب الرأي هو إنسان حر وولدته أمه حراً.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل