تعتقد إيران أن صمتها عن التفاهم التركيّ الروسيّ بشأن مناطق الشّمال السّوريّ الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلّحة، يسمح لقوّتها النّاعمة “الثقافيّة” بالتّمدد اجتماعيّاً على مستوى نشر التّوجه الإيراني والأنشطة التنمويّة والإغاثيّة، المزعومة، ضمن مناطق عديدة أبرزها حالياً مناطق دير الزور وأجزاء من ريف حلب ومناطق واسعة من دمشق ومحيطها الريفيّ.
وتأخذ الميليشيات الشّيعيّة دور الوسيط الناقل للشخصيات الإيرانيّة السّياسيّة الّتي تقوم بترتيب اللقاءات الإعلاميّة مع قيادات “حزب البعث” كما شاهدنا مؤخراً في دير الزور، حيث افتتح مسؤول إيراني منذ أيام في مدينة الميادين شرقي سورية، مركز “زبيدة” وهو مبادرة للهيمنة الثقافيّة الإيرانية، داخل واحدة من مدارس الأطفال الابتدائيّة للمدينة. وصادف موعد الافتتاح ذكرى يوم الجلاء السّوري، لتعطي إيران مكانةً احتفاليةً سياسية لهذا النشاط الاحتلاليّ الجديد!
وتتوّلى المراكز الثقافيّة الإيرانيّة على الخارطة السّوريّة مهمّة هذا النوع من التطبيع الثقافيّ، لإنشاء نواة استخباراتيّة تحتضن الأجيال الجديدة والشابة وتقدم لهم الدّعم لمشاريعهم وأفكارهم ومِنحاً جامعية أحياناً، تحت الرعاية الإيرانيّة وبتشريع من نظام الأسد، حيث يطلق هذا الأخير تسميات من قبيل “الأشقاء الإيرانيّين” أو “الأصدقاء”… لتسهيل تجنيد وقبول المزيد من الأطفال والشباب في مناطق الوجود الإيرانيّ لدعم المليشيات الشّيعيّة وتقديم الحاضنة الشعبيّة لهم.
وتركز إيران أيضاً على نسف هويّة الجغرافيّا السوريّة في المناطق الّتي تخترقها، إمّا عسكرياً عبر التفاهم مع روسيا والنظام وتركيا، أو في المناطق الّتي سقط لها فيها عشرات المئات من ميليشياتها في المعارك، كما في ريف دمشق والقصير وتدمر وريف درعا.
وتؤكد تقارير إعلاميّة أن جنوب دمشق يشهد شراءً اجباريّاً ومتزايداً للعقارات الخاوية أساساً من أهلها، وتتوّلى شخصيات مستثمرة محسوبة على إيران بشكل مباشر، عمليات البيع وتغيير خارطة الأسماء وفقاً لمرسوم سنّه النظام للتغير الديموغرافي بالهيمنة على العشوائيات، ثمّ إعادة تسميتها وبرمجة وجودها ضمن إعادة الإعمار لصالح إيران وروسيا ومن يدعمهم.
من جهة أخرى، تعمل إيران على تصفية الوجوه المعارضة في الجنوب السوريّ، خصوصاً بعد صفقة “فصائل المصالحة” مع روسيا والنظام لتسليم درعا. وتركّز تلك التصفيات على الأشخاص الذين يحملون وعيّاً فكريّاً في العمل السّياسيّ، ونهجاً معارضاً لمخططات إيران التوسعيّة، إذ لا تشكّل القيادات العسكريّة السابقة للمعارضة والّتي بقيت جنوب سورية، أي تهديدٍ يذكر للنظام، لأن فساد البنية الاجتماعيّة وبيع الذمم المنتشر في الحرب، هو أكثر ما أرهق الثورة واخترقها، وبذلك يمكن التخلّص من أي قياديّ بمنتهى السهولة، ولكن استهداف العقول السياسية، السلمية، هو مهمة أمنية تتصدى لها ميلشيات إيران في سورية.
إنّ الإرهاب الثقافيّ الإيرانيّ الّذي تعيشه سورية في ظل التّوسع الروسيّ عسكريّاً ولوجستيّاً والرضا التركي شمالاً، يتم مواجهته، برأيي، على مستوى إنتاج محتوى ثقافي مناهض له بصرياً وأدبياً وإعلامياً وسياسياً، ويدلّ بالبراهين على أنّ هذا الدعم “الثقافي” له مرجعيات طائفية قادمة من تبعيّة تاريخيّة تحاول استعادة هيبة السطو الفارسيّة والتحكم بالشعوب.
وأغلبنا يعلم أنّ إيران تدعم نظام الأسد للحفاظ على توازنات دوليّة لصالحها، قائمة على تهديد مزعوم لإسرائيل (…) ولكن الغاية الحقيقية هي الوصول إلى البحر المتوسط عن طريق السواحل اللبنانيّة باستخدام ذراعها “حزب الله اللبناني” وبمنافذ حدودية مع سورية والعراق، ثم اللعب على ثنائية مواجهة عدو تاريخي لسورية بات يجلس كثيراً على طاولة واحدة مع حليف النظام، روسيا، من جهة، وإبقاء الهيمنة على الحياة السياسية في لبنان، لضمان النفوذ إلى مراكز القرار التي تقوّي أوراقها في المنطقة، من جهة ثانية.
تُرى هل تشمل حقائب الحلول السّياسيّة الّتي تدّعي الدول اللاعبة في الملف السوري أنّها تقوم بتحضيرها، على مواجهة جادة للمدّ الثقافي الإيراني الّذي يشوّه تاريخ سورية؟
ماذا فعلت “داعش” صديقة إيران في تدمر؟ باعت آثارها وفرّغتها، وزرعت “عديمي الجنسية” من إيران للتوطين فيها، لننظر كيف سهّل هذا التنظيم الإرهابي القادم من فكر “الإسلام السياسي” الشقيق لولاية “الفقيه” تلك المهمّات في تشويه ثقافة سورية من باديتها إلى الجنوب والشمال والشرق، وشيئاً فشيئاً تتلاشى هويتنا…
عذراً التعليقات مغلقة