وجُـوه..
الشاعر حيدر محمد هوري.. مسرفٌ بالنداء.. صوته اغتراب
بقلم: سليمان نحيلي
تتدفق القصيدة لدى الشاعر السوري محمد هوري بكلّ انسيابية وعفويةٍ من ينبوع البراءة والصفاء، وتنداح على رِسلِ الخيال مغتسلةً بماء الحنين، تنثر الشوق والحبّ، وتصطلي بوجع النّاس واغترابهم، محاولةً أن تشعل حروفها شموعاً في ليلهم الطويل المدلهمّ بالّظلمة والظّلم والقهر والاستبداد، وأن تنشر يمامات المحبة والألفة والسلام.
طموحه طموح القصيدة لتصير بلسماً يخفّف عن الآخرين معاناتهم، ولذلك أجدني أُردّد مع شاعرنا المقطع التّالي الّذي أزعم أنه عبر تعالقِ حيثياته ببعضها بعضاً، يشكّل صورةً مكثفةً عن نتاجه الشعري، ومميزاته الفنية:
مِنْ فطرة الأطفال
تنساب القصيدةُ
مِنْ خيالٍ خلف معنى الماء يسعى..
كالزّهر عطرُ مجازها الأحلام
مِنْ مطر الحنينِ
تحوكُ معنى الشوق زرعا…
ياوزنها المفطورُ من وجعٍ
أَعِنِ أصداءنا
لتصيرَ في الظّلماتِ شمعا…
لتصيرَ في لغتي الحروفُ حمائماً
وتصيرَ مفردة الحنينِ المرِّ جمعا..
تراوح موضوعات الشاعر السّوري هوري بين الخاص والعام، ولكنه يبدو أكثر إلتصاقاً بالهمّ الوطني نظراً للواقع المرير الذي يعصف بوطنه، لذلك نسمع أصداءَ أجواء الحرب ومفرداته وآثاره من دمارٍ وموت وتشريد تنتشر في أرجاء ديوانه (كبرتُ حين ضاق القميص) والذي نتّكئُ عليه في هذه الزاوية.
القميص ودلالته
منذ العتبىة الكلامية الأولى لديوانه المذكور، تبدأ ملامح المقولة الكبرى فيه بالتّشكّل ممهداً المتلقّي فكريّاً وشعوريّاً لاستقبالها، لتنتشر إشاراته وأشكاله وأجواؤه في معظم قصائد الديوان.
وبالنظر إلى عنوان القصيدة الأولى الذي تبوأ بجدارة مكانة عنوان الديوان (كبرتُ حين ضاق القميص) نستطيع الإدراك منذ البداية أن الشاعر قصد من ذلك أن تكون هذه القصيدة «دالّاً عامّاً» على أجواء الديوان وموضوعته الرئيسية ومقولته الكبرى، ولعلّ ذلك يتأكد من مطلع القصيدة حين يقول: (أُهجّئُ عمري قميصاً.. قميصاً)
ومن خلال ربط مفردة القميص بسياقها التراثي الرمزي بما يُستفاد من قصة النبي يوسف عليه السلام الذي يحيل إلى فكرة الموت، فإنه يتحصّل لدينا أنّ الموت هي دلالة القميص، وبالعودة إلى المطلع المذكور أعلاه وربطه بمقطع آخر من ذات القصيدة يقول فيه: (يضيق القميص إذا أقلق الشيب عمري/ إذا شدّني العمر ُ نحو التراب / وضاقتْ أناي) فكلما كبر الانسان في العمر ضاق قميصه عليه، واضطر لخلعه، واستبداله بغيره، بمعنى آخر أصبح مصيره الزوال والتلف والعدم، وبالتالي يمسي القميص المخلوع دالّاُ على مضي مرحلة زمنية من العمر،، عاشها الانسان «الشاعر» انقضت ولم يعد بالإمكان عودتها.
ارتباط القميص بفكرة مضي الزمن الذي لا يتوقف وخلعه حين يضيق يشير إلى حياة الانسان التي تضيق مع مرور الزمن، وإلى ضيق الزمن المتبقي من العمر السائر نحو النهاية الحتمية وهي الموت الذي يصل إليه الانسان تدريجياً، لأن كل يوم يمضي من حياة الإنسان هو موت ليوم من عمره، ولعلّ استخدام الشاعر لفعل «أُهجّئ» وما يعنيه من «فكرة الاستمرار مع البطء» ما يشير إلى ذلك التدرّج، فالعمر لا ينقضي دفعةً واحدة، إنما ثانيةً إثر ثانية ودقيقة إثر دقيقة وساعة إثر ساعة وهكذا كالتهجئة حرفاً حرفاً وبذلك يستطيع القارئ أن يعيد قراءة مطلع القصيدة كالتالي: (أُهجّئ عمري موتاً ..موتاً).
والواضح أنّ الموت المشار إليه في تلك القصيدة، مقصود به الموت العادي الذي يأتي بتعاقب الزمن حتى انقضاء العمر المحدود، ولكنه في سوريا، بلد الشاعر، وفي زمن الكتابة لا يكون الموت كذلك، فحيث الحرب دائرةٌ رحاها تنهش وطنه وأهله ربما يموت الانسان ولمّا يلبس بعدُ سوى قميص الطفولة يقول:
وأبّ يزفُّ فؤاده للقحط/ يبكي
فوق جثمان الحبيب ليغسلهْ.
وبذلك يكون الموت قتلاً بفعل الحرب وعناصرها، و بذلك يصل الشاعر إلى التصريح بأنّ القمصان هي دلالة تامة على الموت، الأمر الذي ظهر من خلال القصائد التي انضوت تحت القسم المعنون بـ (قمصان الموت – مفردات من كتاب الحرب) من ديوانه، حيث يظهر الموت بعدة قمصان وأشكال، فقد يرتدي قميص الجوع والحصار،حيث تصبح السنبلة مقصلةً، ويصبح الوقت من جوعٍ يفضي إلى الموت تحت الحصار، يقول الشاعر:
هذي السنبلة تقول:
ذاكرتي الحقولُ ومنجلُ الفلاح
وجهٌ آخر للقنبلة..
ويتابع في مقطع آخر:
كي ترسمَ الكلمات ذاكرة الشعوب
تصوغ معنى الموت
هذي السنبلة ..
ويرتدي الموت في وطنه أيضاً قميص القنابل وقصف الطائرات، حين يقول:
نمشي على خوف الطفولة كلما
نطقت سماءٌ بالقنابل والهدير
أو يتخذ الموت قميص البرد، حيث يفتك الثلج بشعبه المشرّد في مخيمات اللجوء المتناثرة في الجبال والسهول، كقوله:
كلّ الملامح في المخيّم
لا تجيد الحزن مثلي
كلّها معجونة بالبرد والموت المحتّم ..
أو يأخذ شكل الموت غرقاً في البحر الذي يدعه يتحدث فيخاطب الغرقى من شعبه الذين أبحروا فيه ناشدين برّ الأمان والسلام:
أنا لستُ قاتلكمْ
أنا أسترجع القرضَ القديمَ -ملوحتي –
وحيال شيوع فكرة الموت في أرجاء قصائد الديوان، نستطيع أن نستجلي نظرته «للحياة والموت» والتي تقوم لديه على فلسفة «العودة إلى التكوين الأول» والتي تتلخص بأنّ الانسان خُلق من ترابٍ وإليه سيعود، ها هو يتحدث عن الذكريات فيبين أن ماهيتها هو الانسان، يقول:
لأنّ الطّينَ أحرفها الذّبولة ..
ولا يخفى أن الطين هو إشارة إلى أصل الإنسان الذي سيمرّ عليه حينٌ من الدهر يمسي فيه من الذكريات بعد أن يلبّي شهوة الموت ونداء التراب:
كلّنا الآنَ اشتهاء الموت في نفَسِ التراب
وكذلك حين يقول:
يضيق القميصُ لأحفظَ وجهي
فلا أتغيّر عني
إذا شدّني العمرُ نحو التراب..
ومما يلفت الانتباه في نتاج حيدر هوري نجاحه في استخدام (تقنية التكرار) كقيمة جمالية في تشكيل شعرية النص الشعري مستفيداً بذلك من الوظائف التي يحققها التكرار، من تلخيصٍ لغرض الشاعر وتوكيده بهدف تنبيه المتلقي والتأثير فيه، ومن كونه لازمةً تفصل المقطع عما يليه، على اعتبار أنه يحمل وظيفةً إيقاعيةً وتعبيريةً الغرض منها الإعلان عن حركة جديدةٍ تخفف من سياق القراءة المتعاقبة، بالإضافة إلى تجسير المقاطع الشعرية، وكذلك مستفيداً من فوائد التكرار الذي ينتج تأثيره على الصعيد النفسي والشعوري من حيث محاولة الشاعر وضع المتلقي في جوّ مماثل لما يكون عليه لحظة مخاضه الشعري بهدف تحقيق المشاركة في الحالة وخلق التأثير لدى المتلقي.
وعلى الصعيد الموسيقي يحقق التكرار إيقاعاً موسيقياً جميلاً، ولقد نوّع حيدر هوري في توظيف التكرار كأداة جمالية فتارة استخدم تقنية «تكرار الكلمة» كما في قوله:
والحربُ دمع الأمّ إن زفّوا إليها
(لم يمت .. يحيا الشهيد بموته)
والحربُ جدرانٌ مهدّمة على حلمِ الشريدِ بخيمةٍ تأوي بقايا
البيتِ .. المنفى الرحيمِ بظنّنا
وتارة أخرى استخدم تقنية “تكرار جملة” أو مقطع، كما في قصيدته اللافتة «السقوط الحي»، حيث يبدو تكرار المقطع أكثر تأثيراً من تكرار الكلمة، لأنه شكّل صورة كاملة وربما مغزى، كما يبدو لنا من الشاهد التالي:
خذي ما تساقط
لكنْ دعي ماتبقّى
فكلّ البيوتِ وكلّ الشوارعِ
صارت وحيدة..
خذي ماتساقط
لكنْ دعي ماتبقّى
لكي يستطيع الربيع ابتكار الزهور
لكي أجعلَ الليلَ باباً يطلّ على حلمنا في قرانا الشهيدة..
وهنا نلاحظ تكرار جملة (خذي ما…….) تكراراً استهلالياً سبع مراتٍ، حيث كشف بذلك عن رغبة الشاعر القصوى في كسر جدار الموت والتشاؤم الجاثم فوق صدر وطنه وشعبه أملاً بالخلاص وتوقاً لحياةٍ جديدةٍ كالربيع المتجدد الذي يطمح الشاعر أن يحلّ ببلده.
والشاعر لم تخنه عمق نظرته وقوة إدراكه وسموّ خياله وبعد رؤيته في اجتراح قصائد ذات أبعادٍ رؤيوية فلسفية عابرةً دائرة الشّكّ وظنّ السراب وزيفه فيزيح لثام الشّكّ عن الحقيقة ويشرعُ صوبها جناحيه وقصيده، يقول:
أرى اليمّ درباً للحقيقة أشرعَكْ
فخذ من يقين الماء سرّي لمنْ معَكْ
أرى رحلةَ الكشف الطويلِ تهزّني
لأسقط َ في ظنّ السّرابِ وأخدعَكْ
وأفتحَ بابي للتّكهّنِ كلّما
أزاحَ لثامُ الشّكّ قلبي وأترعَكْ
ومن الجدير ذكره في تجربة الشاعر هوري الإبداعية اشتغاله على إنتاج تشكيلاتٍ لغوية جديدة ومبتكرة ولافتة ترتقي إلى علوّ المجازات الفنية المدهشة، وتقترب كثيراً من تقديم تعاريف أو معانٍ لبعض الكلمات أو المفاهيم،حيث تظهر من خلالها رؤيته الشعرية لهذه الكلمات والمفاهيم، مثل قوله :
-الحربُ: قافية الخراب.
-الحرب: ذاكرة الأرامل.
-الذكريات: وسيلةٌ أخرى لتأويل السنين
-العمر: طفلٌ طائشٌ.
-حتى أستطيع الحبّ ينقصني المجاز
كما يُحسبُ لحيدر توظيفه الأغاني ذات اللهجة العاميّة في قصيدته بشكل يلائم جوّ قصيدته وموضوعها ويمنحها إضافةً جمالية، ففي قصيدته (كناية لمقام ليلى) التي تطفح بمواجد البعد والرحيل والفقد والحنين واللوعة، وظّف حيدر أغنية فيروز الجميلة (ما في حدا) التي تتناسب معها بذات المواجد والأحاسيس.
لقد شغل الوطنُ ونضاله وتضحيات شعبه وآلامه من أجل الحرية اهتمام الشاعر في جلّ قصائده، وهو الانسان والمحامي والشاعر الذي شرع بنشيد الحرية منذ انطلاقه من حناجر المقهورين في وطنه مكملاً معهم النشيد حتى منتهاه بنيل الوطن حريته، ولنختتم قراءتنا هذه معه من منفاه في تركيا بهذا المقطع الرقيق:
خذي من حروفي عروضَ الخليلِ
بلاغةَ جرح الشهيدِ
ولكنْ دعي للعيونِ الحنينَ
ووزنَ البكاءِ
لأنّ البلاد َ تريدُ اكتمالَ القصيدة.
* * *
الشاعر السوري حيدر محمد هوري في سطور
حيدر محمد هوري، شاعر سوري، من مواليد العام 1984 في مدينة عفرين التي تتبع محافظة حلب في الشمال السوري.
تحصّل على الإجازة في الحقوق من جامعة حلب وعمل في مهنة المحاماة.
نال جائزة الشارقة للإبداع العربي عن مجموعته الشعرية “كبرت حين ضاق القميص” وطبعتها دائرة الإعلام في حكومة الشارقة في العام 2016، كما نال عدة جوائز محلية أخرى في الشعر، منها جائزة البحتري، وجائزة عكاظ.
يكتب المسرح والقصة ونال جوائز فيهما.
له مخطوطات في الشعر والقصة والمسرح.
Sorry Comments are closed