وجُـوه: الشاعر أنور عمران.. المسافر على قطار لا يصل
بقلم: سليمان نحيلي
وأنت تقرأ للشاعر السوري أنور عمران، يذهب بك إلى سدرة الهمس، والإحساس الشفيف، تُقبل على المزيد، فيغسلك الجمال كسماءٍ ماطرة، ويتهادى الكلام على شفتيكَ كتلويحة عاشقٍ ذاهبٍ إلى الحرب عند وداع محبوبته.
هو شاعرٌ لا يمكن تجاوزه في المشهد الشعري السوري والعربي، آسرٌ حدّ الرغبة في تكرار القراءة مرات، متجدّدٌ لا يركن لحالةٍ أو شكلٍ ولا يكرر نفسه.
ولكن.. تحت ذاك الهمس يتلاطم صخب المشاعر وأمواج القلق، قلقه كشاعر أولاً وهو زيت سراج الابداع، وقلقه على وطنه الذي عصفت به رياح الحرب، لدرجة أن مفردات وعناصر الموت والحرب والغياب تسللت إلى قصيدته حتى وهو يكتب عن الحب ويثني على الجميلات، حيث نرى الموت، ودلالاته من الموت المبكر، وما يتركه من لسعة المرارة والذهاب إلى الغروب والملح المتراكم على شباك القصيدة مما خلّفه الدمع تتضافر في هذا المقطع:
الجميلاتُ اللاتي يمتنَ مبكّراً قبل سنّ الكرز
الجميلاتُ اللاتي يذهبنَ إلى الغروب
يخلّفنَ لسعةً في القلب
وتيناً ساخناً في القصائد
الجميلاتٌ اللاتي يكسرنَ إيقاع الحياة بالتلاويح
يعبرنَ الغبش الذي يتركه الملح على شبّاك القصيدة
يعبرنَ كأنهنّ المجاز ..
وأنور لا يلقي بالاً للمفرقعات الشعرية ذات العمر القصير التي لا تلبث أن تتلاشى بمجرد الانتهاء من قراءتها، إنما يعتني بلمعانات شعرية يشكّلها من خلال تفاصيل صغيرة قادرة على إحداث الهزة والصدمة الشعورية، إنه يتجاوز القنبلة ولحظة انفجارها إلى مابعد الانفجار ليأخذنا إلى مواقع ومواقف وتفاصيل وحالات تبدو صغيرة في الظاهر إلا أنها تولد انفجارات وشحنات شعورية تبدأ بعكس القنبلة من الداخل إلى الخارج، ليس دويّ انفجارها أقلّ من دويّ انفجار القنبلة ،إلا أنها أعمق أثراً في نفس المتلقي، ومن تلك التفاصيل التي رصدها عمران، نجده يحلق شعرياً في حديث مؤلم عن الحرب، حيث بات السوريون يموتون قتلا بآلة حرب الطاغية، وصار الموت الاعتيادي حلماً، فلا وقت للرثاء والتأمل وكل طقوس الموت والعزاء، ونقتطف المقطع التالي:
يحلمُ السوريُّ أن يموتَ كما يموتُ الآخرونَ:
فإما نحلةٌ تلسعُ الشريانَ
أو خطأٌ غنائيٌ في “طوقِ الحمامة”….
ويشتهي أن يمرضَ – مثلما يحدثُ عادةً قبلَ الغروب –
لكي يستقبلَ الحوذيَّ بذراعينِ مهدودتينِ.. و بعضِ المراثي:
أريدُ نصيبي من التراتيلِ و وخزِ البخورِ
فقولوا للقذيفةِ أن تتلكَّأَ
….. ريثما أُثَقِّبُ ناياً ستبكي عليْ.
ولعلّ من التفاصيل التي لا يمكن تجاوزها، هذا المقطع الذي يبين فيه حالة الجندي الذي المغلوب على أمره، والذي يمثل الآلاف من الجنود الذين نشرهم طاغية الشام في الحارات والمدن السورية، حيث يقول:
العسكريّ السّاكنُ في حديقة بيتنا
السّاكن كأغنيةٍ ميتة
شاهدتهُ يمسك بنت جارتنا ويبكي:
قد أقتلكِ إذا أُمرتُ بذلك، فلا تؤاخذيني..
واللافت للمتابع أن تجربة أنور تتميز بالتجدد، فهو كمن دخل عهداً جديداً من الكتابة بعد اندلاع الحراك الثوري لشعبه ظهر في كل مناحي القصيدة.
لقد تنازلت قصائده عن الكثير من ذاتيتها، فخرج بها إلى الشارع تلتقط معاناة الناس جراء الحرب.
فعلى مستوى اللغة كما قلنا دخلت مفردات الحرب قصيدته، كما نشهد تبسيطاً فيها، لكن ليس على حساب شعرية الكلمة ودهشة الصورة، لنقرأ معاً المشهد المؤلم التالي:
لا شيء تغيّر في الحرب
الأغنامُ فقط تعلمت الحزن
فالرّعيان تركوا مزاميرهم
وذهبوا إلى الجبهة..
كما يُحسبُ لأنور عمران اشتغاله الدؤوب على استخدام تقنيات السينما والمشهدية بغاية تدعيم القصيدة ورفدها بعنصري المخيال والإحساس والدرامية معاً، فتكاد لا تخلو قصيدة من ديوانه الأخير «أُسند ظهري إلى الرياح» من لقطة سينمائية لافتة، وحسبنا هذا المشهد التالي:
أجدُ نافذةً ما مفتوحةً
وراء ستارتها بنتٌ تغني بالتركية
عن أمطار اسطنبول.
والبارز اللافت في نتاج عمران أيضاً.. تشابيهه النادرة البارعة، والتي تأخذ غالباً تقنية تشبيه صورة بصورة، وهي من أصعب أنواع الصور تشكيلاً، مثل:
– العسكريّ الجميل كهبوبِ أيلول
– الحب هذا الخفيّ كالجدوى من الحياة
– أسماؤهم التي ترنّ في البال كالصّبّار
وبالرغم من التداعيات المأساوية التي يعيشها وطنه والهاجس الثوري لديه للتخلص من نير الطاغية، إلا أنه بقي على موقفه الإنساني من رفض العدوان على شعبه المسالم، محتفظاً بروح التسامح الأصيلة لدى الشعب السوري والتي اشتغل نظام الاستبداد على تشويهها، يقول لابن بلده الطيار الذي يلقي حمم صواريخه على المدنيين وحاراتهم:
حتى لو أنّ أُمكَ تزغرد
حين تقصف الطائرات حارتنا
سأظل ّ أقولُ على الهاتف لها:
صباح الخير يا أمي..
وعمران شاعر ذو هوية شعرية مستقلة، ومتفرّدة في طريقة تناول موضوعاته، وفي التقنيات المستخدمة والعمق والجرأة، حتى وإن تشابه موضوع القصيدة مع سواه.
ففي قصيدته (مديح) التي كتبها في رثاء أبيه، نلمس ذلك التفرّد بدءاً من العنوان الذي يشكل الصدمة المفاجئة بمفعول رجعي بعدما نَلِجُ فضاء القصيدة ليتبدّى لنا أن المقام مقام موت ورثاء إلا أن العنوان مديح، وأزعم أن هذه القصيدة تُقرأ على مستوياتٍ ثلاثة.
أولها تمهيدي، يشكل العتبة الأساس للدخول في الموضوع، من خلال طرحه رؤية جديدة خاصة للموت والموتى بشكل عام فيقول:
الموتى رواياتٌ كُتبت جملتها الأخيرة
لينتقل بعدذلك إلى البناء على تلك العتبة والإخبار عن موت أبيه فيبين لنا أنّ أباه كالموتى أيضاً رواية، إنما كُتبت على عجل، فيقول:
وأبي كُتبت خاتمته على عجل
ومن ثم ندخل إلى المستوى الثاني، النفسي، الذي اشتغل عليه بوعي وجرأة، مستفيداً من « نظرية قتل الأب أو العقدة الأوديبية»، التي أسسها عالم النفس فرويد بناءً على الرائعة المسرحية «الملك أوديب»، لليوناني سوفوكليس، حيث يعبر عمران عن ذلك بقوله:
ببساطة كان أبي
وكنت أُحبهُ أحياناً.. وأكرهه غالباً
مثل كل الأبناء الملوثين بالحداثة.
ثم يأتي المستوى الثالث، وهو الشخصي الخاص بالشاعر، وصدى موت أبيه عليه، حيث شكّل فاجعةً له وهوةً كبيرة في روحه وحياته لا يمكن لأيٍّ كان سدّها، وبنظري أنه بذلك الشعور وتلك النتيجة، انقلب على العقدة الأوديبية وعلى الأبناء الملوثين بالحداثة، ولو بعد الموت، يقول:
لكنّ طيراً هائلاً نقّر روحي
وحتى الآن لا أجدُ مايسد ّذلك الثقبَ الكسيح في الرواية
وذلك الخلل الذي لايمكن أن يصلحه بطلٌ أو كومبارس.
كما برع الشاعر في انزياحاته المدهشة محققاً الجّدة والجمال معاً:
أعرف النساء اللاتي يعشقن الشعراء
ثمّة فراشات ترسم ظلالهنّ
وفنانون بعيدون يدوّنونَ شرودهنٍَ على هيئة الكراكي
– أدقٍ كتفها بسبّابة قلبي.
وقد رصد الشاعر حالة الغربة وتشتت العائلة السورية الواحدة في شتى أصقاع الدنيا وفي والمخيمات، وهو الذي يعاني من مرارة المنافي حيث قذفت به رياح اللجوء إلى السويد، فيقول:
كبرتَ هناك
كأن الموّالَ وجهتك الاخيرة
وكنتَ تُخرِج رأسك من شبابيكِ الأغاني
لتسكتَ الأجراسُ التي تنودُ بخاطرهِ قليلاً..
فالأرضُ راقصةٌ،
خلخالها حاكمٌ طيّبٌ.
أهلُكَ الآن مثلكَ ضاعوا
خيامهم تملأُ أرض الله..
وفي منفاه تنتابه نوبات الحنين إلى وطنه وإلى دمشق التي وَلَه بها وحفرت في نفسه عميقاً عندما أُجبر على مغادرتها، إلا أنه حملها في روحه بكل ياسمينها وحاراتها، لنسمعه في مهبّ الحنين يقول:
ولاتبحث بعدنا عن دمشقَ
دمشقُ في داخلكَ
فاقتل نفسكَ ياغريبُ
لكي تراها ..
* * *
الشاعر السوري أنور عمران في سطور
شاعر سوري من مواليد حمص، مقيم حالياً في السويد.
عمل في الصحافة والإعداد التلفزيوني.
صدر له: “قافية لخلاخيل بلقيس” عن دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة 2002، و”لن تسطيع الإقامة.. لن تستطيع الرحيل” عن اتحاد الكتاب العرب/دمشق في العام 2007، و”أسند ظهري إلى الرياح” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب/القاهرة في العام 2017.
حاز على عدة جوائز عربية ومحلية منها جائزة سعاد الصباح في الكويت، جائزة الابداع العربي/ الشارقة، جائزة عكاظ الشعرية وجائزة أبي العلاء المعري للشعر.
عذراً التعليقات مغلقة