لا يعرف على وجه الدقة واليقين مقدار الدرس الذي على المعارضة استيعابه من مجمل الاعتداءات اليومية التي تتعرض لها حواضرهم الجنوبية، ومقدار الثمن الذي ينبغي عليهم دفعه لجهلهم بخفايا الاتفاقات والتفاهمات التي عقدت في غير مكان؛ بغيابهم ومن دون استشارتهم أو حتى إطلاعهم على النتائج التي آلت إليها تلك التفاهمات، وما هو المطلوب منهم حتى يتوقف مسلسل القتل والتدمير اليومي الذي، ناهيك عن خسائره المادية الصرفة، يؤدي إلى ضياع دائم ومستمر في كل ما يتيح لهم الفهم أو الاستنتاج أو التنبؤ.
من غير المفهوم على الإطلاق الصمت المريب الذي يلف موقف الجانب التركي من القصف اليومي والإجرامي الذي تنفذه قوات النظام وحلفاؤها على المناطق الجنوبية من الأرض المحررة، وكأن به قد ابتلع لسانه نظراً إلى التزامات قطعها على نفسه مع باقي شركائه، ولم يستطع تنفيذها على الأرض، أقله حتى الآن، بسبب تعقيدات المشهد المحرر وعدم ثبات الرؤية الاستراتيجية التركية إلى مجمل مصالحها في سوريا، ومدى إمكان تحقيقها لتداخل وتعارض مصالح الدول المؤثرة في الداخل السوري، الذي يشكل الأتراك القاسم المشترك بينها جميعاً.
لا أحد في العالم كله يمكنه المزايدة على صبر السوريين وثباتهم وتقديم دمائهم ومهج أفئدتهم ذوداً عن أرضهم وشرفهم ومستقبل أبنائهم، ولكن لا ينبغي لأحد مهما علا شأنه وذاع صيته أن يحملهم ما لا يطيقون من موت وثبات يقود إلى ترتيبات منظمة بمعرفة بعض من ذوي القربى؛ تؤدي إلى خطط طويلة الأمد لإحداث تململ ما أو وهن ما طمعاً بالرضوخ والاستسلام.
تبدو لافتة تلك التصريحات المتواترة التي يبوح فيها الأعداء على اختلاف مسمياتهم بين الفينة والأخرى، وتتحدث عن ضرورة عودة إدلب إلى سيادة ما يسمى بالدولة السورية، أو أن الأعداء مضطرون إلى خوض عملية عسكرية فيها نظراً إلى هيمنة التنظيمات الإرهابية، كما يدعون، وتأكيد الرعاة الرسميين للنظام أن كل ما جرى من تفاهمات وترتيبات بخصوص إدلب ما هي إلا إجراءات ظرفية ومؤقتة لحين نضوج ظروف مواتية لإخضاعها إلى هيمنة النظام وأعوانه.
مع أن قراءة متأنية ودقيقة لمجريات الأمور على الساحة السورية، وتمكن الحلف المعادي من بسط سيطرته على كامل الجنوب والوسط السوري وبعض شماله، يقود إلى الاعتقاد أن المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة وأوروبا ومجموعة الناتو على الخصوص، لن تسمح بسقوط الشمال السوري لأسباب عدة تبدو وجيهة وواقعية، أولها إبقاء ورقة ضغط على النظام وحلفائه لتقديم بعض التنازلات في مكان ما، إضافة إلى الرغبة في منع روسيا من الوصول إلى جزء من حدود الناتو الجنوبية، ما يشكل ثغرة استراتيجية، ويضاف إلى ذلك الخوف من موجات كبيرة من اللاجئين الفارين من العمليات العسكرية، خاصة بعد تهديد أردوغان بأن بلاده لن تستطيع استقبال أي لاجئ جديد وستضطر إلى فتح حدودها البحرية أمامهم ليطرقوا باب أوروبا بيد مضرجة بالدم والخوف.
كان ينبغي على العالم الكف عن المراهنة على ثباتنا إلى ما لانهاية، ودفع ما نستطيعه من موت في سبيل تحقيق أهدافه الاستراتيجية العابرة للحدود والرسائل المهداة من هذا الطرف إلى ذاك، التي غالباً ما تمهر بتوقيع أحمر من دمنا المراق على جنبات الطرق والأزقة وحقول الموت.
عذراً التعليقات مغلقة