قد يتناهى إلى فكر الجميع أن التقسيم عبارة عن وضع حواجز من أسلاك شائكة وحدود وحواجز عسكرية… لكن النظام ابتدع وبدأ بتمهيد التقسيم التي يرضي غروره ويزيد في طائفية شعبة القابع تحت حكمه.
التقسيم الذي سأطرحه وعايشت تجربته بنفسي واقعي وحقيقي أكثر من أي تقسيم آخر للحدود؛ فهو يبدأ من لحظة وصولك الحدود الساحلية السورية القابعة تحت سلطة النظام ممثلةً بحواجز الشبيحة..
فما إن تصل لأول حاجز وقبل رؤيتك للبحر سينظر لك ذاك المدجج بالسلاح ذو الذقن الكثة التي تكسو وجهه؛ سيتأكد من رقم سيارتك ولأي محافظة تتبع، وقد تكون لسوء حظك من محافظة حمص أو حماه أو حلب..
بكل تعجرف؛ سيطلب منك ركن سيارتك في مكان بعيد وأن تقف في الطابور الطويل وتسلم هويتك وهوية زوجتك ومن معك إلى من يقوم بالتشييك على الهويات (التفييش).
ستنتظر طويلاً سواء بالحر أو البرد، وعليك ألا تتذمر وألا تظهر على وجهك أي علامة من علامات الاستياء إلى أن يحين دورك..
سيرمق ذلك الضابط هويتك بكل تململ وتبرم من ثم سيسلمك ورقة مطبوعة وجاهزة، فيها بعض المعلومات:
الاسم والكنية
اسم الأب والأم وعدد الأولاد
مكان التولد والإقامة
ومن ثم يأتي السؤال الذي يؤلمك وجوده بكل هذه الفجاجة؛ ما الهدف من الزيارة للمدينة؟! ولنقل طرطوس أو اللاذقية مثلاً..
أين ستقيم في زيارتك؟ هل لديك أقرباء؟ كم ستمكث في مكانك؟ اترك رقمك ورقم صديق أو قريب لك في المكان الذي ستذهب إليه، أو رقم وعنوان الفندق.
ستملأ الاستمارة وكلك امتعاض وحزن من هكذا ورقة، ستنتهي ومن ثم يمسك الضابط الورقة ويقرأ المعلومات باحثاً عن أي معلومة تهمه ويسألك مجدداً:
– من وين من حمص؟
من نفس حمص..
– أي فهمان عليك.. بس حمص المدينة لما الريف؟!
فتجيبه لتخلص نفسك من براثن سؤاله وتكذب مفتعلاً لهجة لا تمت للهجة الحمصية؛ أي.. ريف حمص.
يرد: مع إنو مو باين عليك.. بس أهلا وسهلا.. خلي الولاد يتسبحو بالمي، ومن عندي رح اعطيك أسبوع كامل مو بس أربع أيام متل مو كاتب، وخلي زوجتك تعبي متل هي الورقة وإذا إلها قرايبين تكتب..
تأخذ الورقة وتبدأ بملئها بينما تتيح لغيرك أن يمر، لتفاجأ بأنك محظوظ، فمن جاء بعدك منع من دخول المدينة لأنه من محافظة درعا، وبدون أي تبرير أو سبب للرفض.
شاب آخر كان يقنع الضابط بأن خطيبته تسكن في طرطوس؛ فيرد الضابط بوقاحة:
بدك تقنعني إنو إنت من حلب وخطيبتك طرطوسية، والله لو كنت أنا خيّا لشربت من دما.. انقلع مالك دخلة لهون…
يشعر الشاب بالخوف فينسحب على الفور.
انتهيت من كتابة الاستمارة الثانية، وسلمتها للضابط لختمها، ومن ثم انسحبت أنا الآخر بهدوء وأنا انظر لضابط آخر يطلب من شاب أن يفرغ كل ما في جيوبه كتفتيش مبدأي مزعج.
انتهيت وعدت إلى سيارتي وكلي احساس بالقرف من تعامل الحاجز مع البشر.
نظرت إلى الطابور الطويل لكل من أتى ويرغب بتنفس بعض الهواء النظيف على الساحل، لطالما تمنيت أن أعود أدراجي إلى مدينتي التي تئن من التلوث والموت ودخان العوادم وغبار ما تنسفه براميل النظام كل يوم، لكن شوق أطفالي إلى البحر جعلني أكابر جرحي، إلا أنني لم أعد أرغب بقضاء أكثر من يوم واحد في هذه المدينة المقيتة.
الإجراءات التي مررت بها كانت كما إجراءات العبور من سورية إلى لبنان، لم أشعر إلا وأنا على نقطة حدودية عدائية، لكن هنا قام النظام بفرز أسوأ البشر أخلاقاً، بكل ما يملكون من فيض بالحقد الطائفي والمناطقي.
لم يعد يعنيني زرقة البحر ولم أعد اسمع ضحكات أولادي.. كل ما كان يشغل بالي هو التقسيم الفعلي الذي يجاهر النظام القاتل بمحاربته ولملمة سوريا بينما في الحقيقة يسعى إلى فصل الساحل عن الداخل، وتوظيف الشخص الطائفي في المكان المناسب، والسماح للأشخاص بالدخول حسب الهوية الطائفية والمناطقية.
هو الأسلوب ذاته في بث الكراهية الطائفية الذي انتهجه النظام على مدى خمسين عاماً، يكمل فيه وبكل ما لديه من جرعات حقد، ليتمكن من بسط سلطته ولو كانت على حساب تلويث النفوس ونشر البغض بين ماتبقى من السوريين في الداخل.
Sorry Comments are closed