منذ بداية العام الجديد تتسارع الأحداث والتطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية فيما يخص الملف السوري والمنطقة بشكل عام، من خلال المواقف والمتغيرات الجديدة التي بدأت تتخذها القوى الدولية والإقليمية، حسب مصالحها التي تتوافق حيناً وتتناقض حيناً آخر، بعد الدعم الروسي والإيراني الذي مكّن قوات النظام من السيطرة على الجنوب السوري وكامل دمشق وحمص.
لم يبقَ لفصائل المعارضة سوى الشمال السوري الذي تفصله نقاط المراقبة التركية عن جبهات التماس مع قوات النظام وحلفائه، من خلال ما يسمى “المنطقة منزوعة السلاح” التي نفذها الضامن التركي في منطقة خفض التصعيد في “إدلب وريف حلب الشمالي”، تنفيذاً لمخرجات حلف مسار أستانا “روسيا، تركيا، إيران”، ما يعني تجميد القتال بين قوات النظام والمعارضة الى أجل غير مسمى، أو إنهاء أحداث ومواقف مهمة بدأت تطفوا على السطح بعد قرار الانسحاب الأمريكي من شمال شرق سوريا، تتمثل في مقترح المنطقة الأمنة الذي خرج إلى العلن مجدداً، والخلافات بين دول حلف أستانا، الذي بدأ يتصدّع وينذر بانهيار قد يؤدي إلى نشوء محاور وتحالفات جديدة في سوريا والمنطقة.
وإضافة إلى الضربات العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف الوجود الإيراني على الأرض السورية، هناك بوادر صراع مسلح “روسي إيراني” بالوكالة في داخل سوريا، بين الميليشيات الموالية لإيران إلى جانب الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر شقيق بشار الأسد من جهة، والفرقة الخامسة التابعة للجيش السوري الموالية لروسيا من جهة أخرى، نزاع يدور من أجل السيطرة على مناطق استراتيجية وحيوية في أنحاء سوريا وليس مدينة حماة وحدها.
وتجدر الإشارة الى أن الفرقة الرابعة الموالية لإيران تسيطر على معظم المعابر والطرقات الدولية التي تسعى موسكو وأنقرة إلى إعادة فتحها أمام حركة الترانزيت والتجارة الدولية، تطبيقاً لاتفاق سوتشي، ومع ازدياد حالة التوتر بين موسكو وطهران، أكدت الخارجية الروسية “في كلام صريح ومفاجئ” أن أمن إسرائيل أولوية روسيا في المنطقة، وأن إيران ليست حليفاً لروسيا في سوريا، ولا تتفق مع طهران في أجندتها المعادية لإسرائيل، وإنما يعمل الطرفان سوياً في إطار محادثات أستانا حول الملف السوري، وبالتزامن مع ذلك تقدّم موسكو تطمينات كبيرة للدول العربية الرافضة للوجود الإيراني في سوريا، بأن روسيا ستكبح الدور الإيراني لقاء إعادة العلاقات مع نظام دمشق وإعادته إلى الجامعة العربية، وهذا ما يفسّر تغاضي موسكو عن الغارات التي تشنها إسرائيل ضد أهداف إيرانية على الأرض السورية.
وهناك صدام “روسي تركي” بشأن مصير الأكراد والمنطقة الآمنة في سوريا، فموسكو ترفض المطالب التركية بأن تكون مشرفة على إنشاء وإدارة “المنطقة الآمنة” الهادفة لإبعاد الميليشيات الكردية المدعومة أمريكياً عن الحدود التركية التي تعتبرها أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي يشكّل تهديداً لأمنها القومي، وترى أن اتفاقية أضنة لعام 1998 والموقعة بين أنقرة ودمشق وتنص على تعاون سوريا التام مع تركيا في مكافحة الإرهاب عبر الحدود وإنهاء دعمها لحزب العمال الكردستاني، وإعطاء أنقرة حق ملاحقة العناصر الإرهابية في الداخل السوري حتى عمق 5 كيلو متراً إذا لم تستطع سوريا القضاء على الإرهابيين الذين يهددون تركيا، واعتبار الخلافات الحدودية بين البلدين منتهية حيث هي من تحدد طبيعة التعامل مع القضية الكردية وتساعد في ضمان أمن تركيا.
تدعم روسيا مطالب نظام الأسد بالسيطرة على الشمال السوري، “سواء إدلب أو منطقة شرقي الفرات”، مهما كانت طبيعة الاتفاق بين الطرفين، كما عبّر الرئيس الروسي عن دعمه للحوار بين الأكراد والحكومة السورية كجزء من الحل، والاستمرار في محاربة الإرهاب في إدلب بغض النظر عن اتفاق وقف اطلاق النار، بينما تطالب تركيا بإقامة منطقة آمنة “عازلة” بعمق 32 كيلوا متراً على طول الحدود مع سوريا، لا تواجد فيها للميليشيات الكردية التي تعتبرها أنقرة “إرهابية” وأن لديها القدرة على إقامة تلك المنطقة “الآمنة” بمفردها، لكنها لن تستبعد واشنطن وموسكو، أو أي دولة أخرى تريد أن تتعاون في هذه المسألة، موضحة أنها تجري اتصالاً غير مباشر مع النظام السوري، ولكن لا شيء مؤكد بعد بشأن تلك المنطقة المزمع إنشاؤها لتكون ملاذاً آمناً لعودة اللاجئين، ويبدو أن روسيا تضغط بقوة لفرض معادلة إدلب مقابل موافقة موسكو على المنطقة الآمنة “شرقي الفرات”، وتطالب بانتقال المدينة إلى سيطرة النظام السوري من دون أن تعرقل تركيا ذلك، وقد أعلن الأتراك أنهم متفقون مع الروس بشأن التسوية السياسية في روسيا، باستثناء مسألة بقاء الأسد في السلطة من عدمه.
تتطابق مواقف أنقرة وواشنطن حول المسألة السورية باستثناء بعض النقاط، فالولايات المتحدة ترغب في تسليم منطقة “شرقي الفرات” إلى تركيا بشرط حماية الأكراد وتعهد أنقرة بالقضاء على بقايا تنظيم “داعش”، ولاشك أن السياسة التركية وضعت نفسها رهينة التجاذبات الأمريكية الروسية وتحالفاتهما الإقليمية، من خلال مفاوضة كل طرف على حدى، ظناً منها أن ذلك طوق نجاة لها، لكن الطرفان الروسي والأمريكي يلفان الحبل حول عنق تركيا في المنطقة كما إيران، والمطلوب أمريكياً وروسياً هو إخراجهما من سوريا ولو بعد حين، بعد أن أصبح التغيير الديموغرافي واقعاً على الأرض بحكم عمليات التهجير التي طالت العرب السنة، ولابد أن تبقى تلك المناطق وفق ما خطط لها، مدة من الزمن تحت سيطرة محتليها وإدارة محلية ريثما تتم تهيئة النفوس لتقبّل شكل الكيانات الجديدة على الأرض السورية، ومن ثم تنتهي حالات الاحتلال تلك بمعاهدة تَصنع الاتحاد السوري، الدولة الفدرالية الجديدة، التي تنتهي بدولة يكون التقسيم المجتمعي عنواناً لها، وتكون القوة فيها للأقليات المسيطرة على الكيانات، باستثناء كيان الداخل الذي سيحشر فيه العرب السنة – الكتلة الكبيرة التي يراد تفتيتها بشكل نهائي في المنطقة.
فهل ينجحون في ذلك ويجعلون من اللاجئين والنازحين السوريين فلسطينيي المنطقة الجدد؟ هذا ما ستجيب عنه المرحلة المقبلة التي تعتبر أخطر مراحل الصراع التي تمر بها سوريا.
عذراً التعليقات مغلقة