حين كنت في القاهرة كان معظم نشاطي مركز على تطوير العلاقات مع القوى الثورية والأحزاب المصرية، وقد استطعت نسج علاقات مهمة بين جمهور الثورة المصرية، كقوى شبابية ثورية أو كأحزاب مصرية، وكنت أتلقى دعوات بين الحين والآخر لحضور أنشطة خاصة بهم في محاولة لتبادل الخبرات والمعرفة بيني كثائر سوري وبينهم كثوار مصريين.
في شتاء 2014 تمت دعوتي من قبل الحزب الشيوعي المصري لحضور لقاء مع قوى ثورية سودانية، وكنت السوري الوحيد في المدعو، وكانت الغرفة تضم ما يقارب خمسة عشر شخصاً ينتمون لأحزاب وتجمعات سياسية وثورية متعددة، وكانت المناسبة تكريم أحد مصابي “هبة سبتمبر” – الانتفاضة الشعبية التي حصلت في أيلول 2013 احتجاجاً على قرارات اقتصادية اتخذتها الحكومة – بعد انتهاء العلاج الذي تلقاه في مستشفيات القاهرة، وبالمناسبة فالمصاب لديه إصابات أخرى قديمة جراء مشاركته في أنشطة ثورية متعددة ضد نظام البشير خلال مسيرة حياته التي قضى معظمها في المستشفيات للتعافي من إصابات أمن البشير أو في سجون نظام البشير.
افتتح المصاب المكرم الحديث عن نظام البشير الأمني مستعرضاً أنواع السلاح التي يستخدمه لقمع المعارضين والمتظاهرين، والذي تتسبب طلقاته بأضرار أكبر من الطلقات العادية المستخدمة في هذه الأسلحة، مبيناً أن هذه الأسلحة من صناعة إيرانية، وأن نظام الملالي الإيراني يدعم البشير بالخبرات الأمنية وبالأسلحة والذخائر التي توقع أشد الإصابات في صفوف المتظاهرين.
كما تحدث أيضاً عن هيكلية النظام الأمني السوداني من تعدد أجهزة الأمن وتنافسها مع بعضها وإخلاصها لشخص رئيس النظام السوداني عمر البشير، وعن وجود قوانين تحمي عناصر الأمن من المسائلة القانونية في حال ارتكابهم جرائم بذريعة أنها تقع ضمن ممارسة عمله الأمني في خدمة البلد، وحمايته من العملاء المخربين، ثم استعرض ما تمارسه قوات البشير على بعض المناطق السودانية الثائرة على نظامه مثل دارفور من إلقاء البراميل المتفجرة على السكان الآمنين الذين تعودوا العيش حول الحفر التي تستخدم كملاجئ يهرعون إليها حين يسمعون صوت طائرة “أنتونوف” الروسية التي تحمل البراميل المتفجرة.
في الحقيقة أدهشني حجم التماهي بين نظامي الأسد والبشير، حيث يمارس النظامان نفس الممارسات وكأنهما درسا في كتاب واحد، وكنت في شبابي المبكر قد قرأت “الأمير” لميكافيلي، وشاهدت تطبيقه الحرفي من قبل الأسد الأب في الواقع، إلا أنني لم أشطح في الخيال لدرجة أن الكتاب أصبح مرجعا جامعياً يدرسه المستبدون قبل وصولهم للحكم، ثم يقدمون امتحاناتهم ومن يستطيع فهمه أكثر وتطبيقه يمكنه النجاح في الحكم والاستمرار لسنوات طويلة جالساً على كرسي السلطة، كما لم يخطر ببالي أن الامتحان “Openbox” حيث يمكن لجميع المستبدين الاستفادة من خبرات بعضهم البعض وتعميم تجاربهم كإضافات تعليمية على الكتاب نفسه، وقد يشطح بي الخيال أكثر فأكثر لأقول بأن ميكافيلي كان متواضعاً في نصائحه للأمير بجانب ممارسات وخبرات الأنظمة المستبدة في منطقتنا الشرق أوسطية.
كان دوري في الكلام التالي بعد المصاب حسب ترتيب الجلوس، فعرفت عن نفسي وثورتي، ثم انطلقت لأعبر عن دهشتي من التشابه الكبير في بنية نظامي الأسد والبشير وممارساتهما بحق الشعوب، وأوضحت نقاط التشابه الكبيرة من حيث الاعتماد على أجهزة الأمن وإطلاق يدها لتمارس ما شاءت بالشعب، وتقسيم الشعب إلى فئات وطوائف ودفعه للاقتتال مع بعضه البعض وإضفاء صفة غير حقيقية على نظامه، كالعلمانية والاشتراكية والعروبة عند الأسد والإسلام والعروبة عند البشير، وكلا النظامين بريء من الأوصاف التي يجمل نفسه بها، فلا نظام الأسد عروبي وهو الذي استقدم الفرس الإيرانيين والروس ولا هو اشتراكي في النظر لسياساته المافيوية في سرقة الشعب، وبالنظر حتى لقرار مؤتمر حزب البعث واجهة السلطة الذي اعتمد خيار اقتصاد السوق لكنه نسي أن يحذف كلمة الاشتراكية من أهدافه في الكتب وبقيت تهمة “مناهضة تطبيق النظام الاشتراكي” جريمة يعاقب صاحب الرأي الحر في محاكم أمن الدولة عليها، وشهدنا فصول العلمانية الأسدية في مدارس الأسد لتحفيظ القرآن وفي خريجي سجن صيدنايا وفي القوى الإسلامية المتطرفة التي دفعها للعراق حين دخلت الولايات المتحدة الأمريكية فيه، كما وجدناها في تهديدات الـ “حسون” مفتي النظام الأسدي لأوروبا بإغراقها بالانتحاريين و… الخ.
كانت الطرف المقابل مشابه لما لدينا في سوريا، ففي السودان نظامان مستبدان، لكن أيضاً هناك معارضة متفرقة مشتتة متصارعة بين بعضها البعض، وكانت تلك الجلسة فرصة لتلتقي بعض القوى السودانية المعارضة مع بعضها البعض في غرفة بسيطة على كاسة شاي “كشري” وليتم الاتفاق على ضرورة التنسيق بين بعضهم البعض، والحوار حول أفضل السبل لعمل وطني ديمقراطي مشترك ضد نظام البشير، وفرصة أيضاً للتأكيد على أن أنظمة الاستبداد والإجرام تتبادل الخبرات، وتنسق مع بعضها البعض لقمع الشعوب، وها نحن اليوم نرى نتائج هذا التنسيق في زيارة البشير لبشار، وفي إعادة افتتاح السفارة الإماراتية بدمشق، والغزل الأردني بالنظام السوري، وفي …، بالمقابل نرى أن الغضب الشعبي، والانفجارات على شكل انتفاضات هنا وهناك، تحتاج من القوى الوطنية الديمقراطية السورية أن تنسق مع بعضها البعض بداية، ثم تنطلق لتنسق وتتبادل الخبرات مع القوى الأخرى التي تنتفض في وجه حكامها في أكثر من مكان من بلاد العرب أوطاني لتشكيل جبهة ثورية قوية بوجه المستبدين القتلة.
أعرف أن ما أقوله أضغاث أحلام، وأن النرجسية والأنانية لازالت تهيمن على عقلية قوى المعارضة والثورة السورية، وأن تلك العقلية العفنة لا زالت سبباً رئيسياً من أسباب تراجع الثورة السورية، ووصولها لمحطة خطرة جداً مع الإعلان الترامبي الأخير، لكني أثق أن الشعوب ستنتصر في النهاية، أثق أن الظروف ستنضج يوماً ما لتقوم الشعوب وتكنس تلك الأنظمة المجرمة وترميها في مزبلة التاريخ.
عذراً التعليقات مغلقة