دأبَ حزب البعث الحاكم في سورية منذ استيلائه على الحكم إثر إنقلاب العام 1963، فيما سُمّيَ بثورة الثامن من آذار وحتى اليوم على التخلص من خصومه السياسيين، وذلك بالنّفي أو الاغتيالات، أو عبر سنِّ قوانين خاصة الغاية منها التخلص من خصومه ومعارضيه.
وتُعتبر الطريقة الأخيرة هي الأمكر والأخطر من سابقاتها، وذلك عائد للأسباب الآتية:
1- إنّ هذه الطريقة تنطوي على اغتصاب للسلطة التشريعية وذلك بالإملاء عليها لشنّ قوانين توافق مصلحة حزب البعث كحزب حاكم للبلاد، تكون الغاية منها تجربم كل معارض سياسي له، بنص قانوني يضمن ملاحقته ومعاقبته وبالتالي إزاحته من ساحة المعارضة.
2- إنّ هذه الطريقة تكفل للنظام التخلص من أكبر عدد بل من عدد مفتوح من خصومه السياسيين، على خلاف الاغتيالات السياسية والتصفيات الشخصية الفردية.
3- إنّ هذه الطريقة تشكل ما يسمى غطاءً قانونياً لنهج التخلص من المعارضين، فيصبح معارضو الرأي مجرمون ملاحقون بحكم القانون. ويتذرع النظام في ملاحقتهم بنصوص القانون.
وفي الجهاز القضائي السوري الحالي، هناك ثلاثة أنواعٍ من المحاكم التي أنشأها النظام السوري بغايةِ التخلص من معارضيه السياسيين، أُقدّم نبذة عن كل منها:
أولاً – محكمة الإرهاب
أُنشئت بموجب القانون رقم 22 للعام 2012 بعد انطلاق الثورة السورية، وتعد من القضاء الاستثنائي المختلط، بحكمِ أنها تضمّ في تشكيلها أعضاءً عسكريين ومدنيين، يتمّ تعيينهم من رأس الهرم السياسي والتنغيذي وهو رئيس الجمهورية، وهذا يُعدُّ خرقاً للمبدأ الدستوري المتمثل في الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء. كما وتعد سلطات هذه المحكمة مطلقة بحيث تطال محاكمة العسكريين والمدنيين معاً، الأمر الذي يشكل خرقاً لقواعد الاختصاص النوعي القضائي، الذي يقضي بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم المدنية، والعسكريين أمام المحاكم العسكرية.
ومما يجدر ذكره، أن هذه المحاكم فُصّلت على مقاس قانون الارهاب رقم 19 للعام 2012.
والمتفحّصُ لقانون إحداث هذه المحكمة يتضح له غاية وخطورة هذا النوع من المحاكم منَ النواحي الآتية:
1- إنّ الأحكام الغيابية الصّادرة عن محكمة الارهاب تُعتبر أحكاماً قطعية مبرمة، وعليه فلو تمّ إلقاء القبض على المحكوم عليه غيابياً بحكم الإعدام فسوف يُنفّذ بحقه، بخلاف الأحكام الغيابية في كل دول العالم، والتي تُعتبر لاغية بمجرد إلقاء القبض على المحكوم عليه، وبخلاف قانوني العقوبات السوري العام وأصول المحاكمات الجزائية العادي والعسكري، الأمر الذي يبرهن على إرادة استهداف نوع معين من المتهمين.
وهناك شرطٌ غريبٌ جداً في قانون إنشاء هذه المحاكم لا يمكن أن يتحقق في الواقع العملي وهو: تعليق إعادة محاكمة المحكوم غيابياً على تسليم نفسه طواعيةً للمحكمة، إذ كيف سيعلم المحكوم أنّ حكماً غيابياً سبق وصدر بحقه عن محكمة الارهاب التي من صلاحياتها إصدار أحكام غيابية بالحد الأقصى للعقوبة بناءً على تقريرٍ أمني قد يكون محض افتراءٍ من حاقدٍ أو ضاغنٍ، أو بناءً على اعترافِ متهمٍ تحت التعذيب على ذلك المحكوم وعلى آخرين.
إنّ هذا التعامل أدّى في واقع الحال إلى إصدار مئات الأحكام الغيابية بحق أشخاص لمجرد ورود أسمائهم في اعتراف انتزع تحت التعذيب من متهم ما.
2- تنص المادة 7 من قانون الارهاب أنّ محكمة الإرهاب غير مقيدة بالأصول والإجراءات المنصوص عليها في التشريعات النافذة في جميع أدوار الملاحقة والتحقيق والمحاكمة.
وهذا يعني أنّ المتهم هنا لا يتمتع بالضمانات الواردة في قانون أصول المحاكمات الجزائية، والتي تكفل له محاكمة عادلة، ومن تطبيقات ذلك عملياً اعتماد الاعترافات الواردة في ضبط المخابرات والجهات الأمنية دليلاً كاملاً للحكم بإدانة المتهم، ولا يخفى على أحد كيف تنتزع الاعترافات لدى فروع المخابرات السورية، إن هذا النهج مخالف لصراحة المادة 180 من قانون أصول المحاكمات الجزائية وللاجتهادات المستقرة لمحكمة النقض السورية في اعتبار تلك الاعترافات على سبيل المعلومات العادية، التي لاترقى لمرتبة الدليل الكامل لتقرير حكم الإدانة.
3- وربما يقول قائلٌ: أنّ محكمة الإرهاب يقتصر اختصاصها على محاكمة الإرهابيين والمسلحين فقط، فنقولُ إنهُ ثبتَ من التطبيق العملي خلال السنوات الست التي انقضت على إحداث محاكم الإرهاب، أنّ المعتقلين بجرائم السلاح يُحالونَ للمحاكمة أمام المحاكم الميدانية العسكرية، وبالتالي فإنّ الأغلبية الساحقة من المتهمين المحالين للمحاكمة أمام محاكم الإرهاب ليسوا سوى معتقلي رأي ونشطاء وإعلاميين ومتطوعين إغاثيين، كأصحاب الخوذ البيضاء الذين يعتبرهم النظام وقوانينه إرهابيون.
4- إن قانون مكافحة الإرهاب الذي تطبقه محكمة الارهاب عبارة عن مجموعة نصوص عامة ومجملة ومطاطة تقبل التفسير الواسع من قبل المحكمة بحيث لا يمكن أن يفلت منها أيّ متهم يُحال إليها.
5- إنّ أحكام محكمة الارهاب موغلة في الشّدّة بشكل يعتبرها المرء تنكيلية، ويكفي لبيان ذلك أن نذكر أنّ عقوبة مجرد من يهدّد الحكومة شفوياً بعمل إرهابي هي الأشغال الشاقة لمدة 15 عاماً.
ولذلك فإن المحالين لهذه المحكمة يقدّرون بمئات الآلاف.
ثانياً – محاكم الميدان العسكرية
أُحدثت بالمرسوم 109 لعام 1968 إبانَ نكسة حزيران عام 1967.
ولقد اختصت بمحاكمة الجنود الفارّين من ساحة المعركة مع العدو أو الخونة المنضمّين لصفوف العدو وهي كمحاكم الإرهاب لا تتقيد بالأصول والإجراءات المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية، وأحكامها مبرمةٌ لا تقبل الطعن، وتحاكم العسكريين فقط.
لكنّ حافظ الأسد، وفي سبيل التخلص من معارضيه والاستفراد بالحكم المطلق للبلاد، أراد أن تشمل كل السوريين عسكريين ومدنيين، وخصوصاً بعد قيام أحداث الأخوان المسلمين الذين برزوا كخصومٍ سياسيين، فاستغلّ الفرصة، وأصدر المرسوم 32 للعام 1980، الذي أضاف على نهاية الفقرة ب من المادة 3 من المرسوم 109 المذكور عبارةَ (عند حدوث إضطرابات داخلية).
وبموجب هذه العبارة تمّ إعدام آلاف السجناء السياسيين في سجن تدمر العسكري، وهذا معروف للسوريين.
ثالثاً – المحاكم الأمنية الخاصة
وهي محاكم سرية بامتياز، وتعتبر من أكثر أنواع المحاكم وحشيةً.
والجدير ذكره أنها بخلاف باقي أنواع المحاكم، ليس لها قانون ينظم عملها، ويحدد اختصاصها.
تُعقد هذه المحاكم داخل مقرات الفروع الأمنية بعضوية ضباط المخابرات، كما يتم تنفيذ الحكم داخل الفرع، دون إحالةٍ إلى القضاء.
وما ينبغي ذكره أن ّ هذا النوع من المحاكم عاد العمل بكثرة وشراسة عقب اندلاع الثورة السورية في العام 2011 وفقاً لصلاحياتٍ عقابيةٍ أشدَّ من ذي قبل، ولا أدلَّ على ذلك إلّا آلافِ عمليات القتل تحت التعذيب في فروع الأمن وأماكن الاعتقال الأخرى السّرّيّة.
وما الصّور التي نشرها المصوّر العسكريّ المنشقّ قيصر إلا دليل على ذلك.
عذراً التعليقات مغلقة