بلا إعلان، طرأت في الأسابيع القليلة الماضية، تعديلات وتغييرات على الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، نتيجة لتعثر وبطء الهجوم على «الإرهاب» في العراق وسوريا، وقيام «داعش» بهجمات انتقامية مروعة داخل أميركا، وفي أوروبا، وكذلك بعد تمكن طالبان من توجيه ضربات موجعة للجيش الأفغاني، هزت النظام الحكومي في كابل المدعوم أميركيًا.
أميركا لم تنسحب من المنطقة العربية. كل ما فعلته كان توزيعًا للأدوار بينها وبين روسيا، لمواصلة الحرب على إرهاب «داعش»، و«جبهة النصرة»، وسائر التنظيمات الدينية المتزمتة والمعتدلة، وأسندت أميركا هذه المهمة لنفسها في العراق، وأفغانستان، وباكستان، واليمن، وواصلت روسيا دورها مع البيدق الإيراني في سوريا، لدعم البيدق العلوي ضد هذه البيادق (السنية)، وتجنيبه غضب «الشاه» الأميركي.
تبدو من قراءة التحولات الميدانية على رقعة الشطرنج الإقليمية، عودة أميركا من العراق إلى سوريا، لمحاربة العنف («الداعشي» بالذات)، من خلال تدويل الحرب السورية، بإشراك قوات النخبة في دولٍ أعضاء في حلف الناتو، كفرنسا، وألمانيا، وتركيا. وليس معروفًا بعد ما إذا كانت ستطرأ إضافة جديدة على عدد القوات الأميركية في العراق، وسوريا (حاليًا عشرة آلاف جندي)، أو في أفغانستان (حاليًا عشرة آلاف جندي أيضًا).
إلى الآن، خاضت «أميركا أوباما» حربها بالواسطة على رقعة الشطرنج العربية، معتمدة على البيدق الكردي في سوريا والعراق. لكن تدويل الحرب السورية يتجسد بوضوح في المشهد الميداني، والمسرح السياسي. فالتنسيق الأميركي مع تركيا اقتضى إرضاءها، بإلزام القوات الكردية (السورية/ التركية) العاملة على خط «منبج، الباب، جرابلس»، بالانسحاب بعد تطهيرها من الميليشيا «الداعشية» التي تحتلها منذ عام 2014.
وكانت تركيا قد اعتبرت هذه المنطقة الحدودية السورية الواقعة غرب نهر الفرات خطا أحمر، وهددت بالتدخل ضد القوات الكردية التي اجتاحت النهر، وتوغلت في ريف حلب الشمالي والشرقي، لكنها عادت، فصمتت بعد التفاهم السري مع أميركا.
كذلك يبدو أن أميركا سمحت لتركيا بنقل قوات كبيرة للمعارضة السورية المسلحة إلى حلب مع مدافع ثقيلة، وصواريخ. هذه القوات تتعرض حاليا لقصف جوي روسي، وسوري بالبراميل المتفجرة، بعدما تمكنت من إحباط هجوم الجيش السوري، وفلول «حزب الله»، والميليشيات الإيرانية، لاحتلال كامل المدينة المنكوبة.
فشل الهجوم السوري – الإيراني على حلب، تمت تغطيته بتحويله شرقًا باتجاه «الطبقة». لكن هذا الهجوم عبر بادية الشام تعثر أيضًا أمام صمود «داعش» في هذه المدينة الاستراتيجية النفطية والمائية، وتردد القوات الكردية في محاصرتها من الشمال، بحيث بدت تصريحات بشار عن عزمه استعادة كامل التراب السوري، بمثابة فقاعات هوائية مثيرة لسخرية كيري وأوباما.
هل يبلغ تدويل الحرب السورية مداه الأوسع؟ بمعنى هل قوات النخبة الألمانية والفرنسية التي يقال إنها مرابطة حاليًا في مناطق حدودية سورية – تركية، ستكون بديلاً للقوات الكردية؟ وهل ستشارك، كقوات من حلف الناتو، مع القوات الأميركية، في الحرب على «داعش» في شرق سوريا (الطبقة، الرقة، دير الزور)، وفي ريف حلب الشمالي والشرقي؟ وهل تستطيع «أميركا أوباما» تحقيق النجاح المطلق، في استراتيجيتها الجديدة، بحيث تروض، وتركب أيضًا الحصانين الكردي والإيراني؟
ألمانيا نفت فورا وجود قوات لها في سوريا. لكن سبق أن شاركت، كقوات حفظ سلام دولية في مناطق مختلفة، بل كانت موجودة عمليًا وميدانيًا مع القوات الأميركية في أفغانستان. وبالتالي، فألمانيا التي عاشت واقعيا مأساة نصف مليون مهاجر سوري هاربين من قمع النظام وتزمت المعارضة الدينية، قد تكون متحمسة للتضحية، وللمشاركة في الحرب الأميركية أو الدولية، على «الإرهاب». وعلى النظام.
أما فرنسا، فأعتقد أنها أخطأت في الإعلان عن وجود قوات لها على أبواب منبج. فالظروف الداخلية الفرنسية غير مناسبة، لإعلان قد يحفّز الخلايا «الداعشية» النائمة في أوروبا، على شن عمليات عنف جديدة، لا سيما خلال الدورة الكروية لكأس أوروبا الحالية حاليا في فرنسا الملزمة بتوفير الحماية الأمنية لـ85 مليون سائح يزورونها سنويًا.
على المسرح السياسي، تبدو «أميركا أوباما»، تحت ضغط جنرالاتها ودبلوماسييها، جادة هذه المرة في القضاء على «داعش». كما يبدو «داعش» جادًا، في دفع خلاياه الأوروبية النائمة للتحرك، ولارتكاب عمليات عنف انتقامية في أوروبا وأميركا، هذه العمليات سوف تزيد في الإساءة إلى سمعة وإقامة 35 مليون عربي ومسلم في دول الاتحاد الأوروبي، وهم معرضون لغلوّ اليمين العنصري في رفضه لهم، والتهديد بطردهم.
كأن «داعش» يتعمد التطبيق الحرفي لمقولة عالمي الاجتماع اليهوديين برنارد لويس، وصوئيل هنتنغتون، عن صراع الحضارات والثقافات بين الغرب والعالمين العربي والإسلامي، فهي تريق الدماء بشراسة في عمليات استنزاف خاسرة.
وبدلاً من التركيز السياسي والإعلامي على معاناة ملايين السوريين من الحصار، والتجويع، ووحشية القصف الجوي والبري، وتحيز هيئة أمم بان كي مون، ومبعوثها الخواجة دي ميستورا، لما يمليه النظام الطائفي وأسياده في موسكو وطهران، فقد منحت عملية «داعش» في أورلاندو عنصريي العالم وأميركا الفرصة لتغييب هذه المعاناة، وحجبها عن وعي وذاكرة الرأي العام العالمي، ولترويج الشعارات العنصرية المعادية للعرب والإسلام.
خطر تدويل الحرب السورية يتجلى في احتمال الصدام الميداني بين قوات الناتو الألمانية، والفرنسية، والتركية، مع قوات روسية، وسورية، وإيرانية. ومع اشتداد التوتر، وشراسة الحرب، وتبادل التحذيرات والإنذارات، فسوريا، أو حلب بالذات، مرشحة لأن تكون شرارة إيقاد حرب عالمية، يلزمها عود ثقاب نووي للقضاء على البشرية والحضارة، في عالم بلغت فوضاه الذروة، وهوت به رداءة نزاهته السياسية والأخلاقية إلى الحضيض.
في الوقت ذاته، فقد تغدو سوريا حمامة سلام في اتفاق غربي روسي، على تسوية في هذا البلد العربي المعذب، تضع حدًا للحروب الطائفية والمذهبية التي تشنها إيران على العرب، ولحروب الآخرين الذين حولوا سوريا إلى قندهار أفغانية متزمتة وكئيبة.
* نقلاً عن “الشرق الأوسط”
عذراً التعليقات مغلقة