جميلة هي مظاهرات الشمال وعلى امتداد المحرر تقريباً، سيما تلك المناطق التي تخضع للنفوذ التركي بحكم سيطرة الفصائل التي تنطوي تحت مسمى درع الفرات وغصن الزيتون المدعومين تركيا، وإن كانت المظاهرات عامة وشاملة تقريباً في مختلف المناطق المحررة.
وكم كان جميلاً لو أن هذه المظاهرات كانت عفوية وفطرية كم كان عليه الحال في بداية الحراك الثوري، والتي أخذت في ذلك الحين خطاً تصاعدياً تنتقل من مكان لآخر ومن مدينة لأخرى بكل سلاسة وبساطة، ومن منطلق التطابق في المسببات التي قادت إليها وعدالتها ومن منطلق الحالة العاطفية في الانتصار للمناطق التي سجلت سبقاً زمانياً والتي تعامل معها النظام ومع مطالبها المشروعة بعنف وبقبضة حديدية قادت في كثير من الأحيان لسفك وإراقة دماء كثيرة وزكية.
الملفت للنظر أن هذه المظاهرات كانت متزامنة مع الاتفاق الروسي التركي، والذي عقد في سوتشي بين بوتين وأردوغان ويبدو أن هناك عدة أهداف تطمح تركيا لتحقيقها من هكذا مظاهرات، أولها محاولة إثبات أن الكتلة السكانية في المحرر من سكان نازحين ومهجرين هي كتلة مدنية سلمية تحلم بإقامة دولة مدنية تعددية، وتستخدم الطرق السلمية والقانونية لتحقيق هذا الهدف بعيداً عن العنف ولغة القوة، وتحاول إثبات وجود هوة عميقة وواسعة بين بعض الفصائل المسيطرة في الشمال والمصنفة على لوائح الإرهاب الدولية، والسكان المدنيين التواقين إلى بناء الدولة العصرية المدنية بطرق شرعية وقانونية مقبولة دولياً.
كما يحاول منظمو هذه المظاهرات إثبات مدى النفوذ التركي في الشمال السوري، ومدى قدرة تركيا على التأثير في الوضع هناك والمساهمة الإيجابية في صياغة عقد مدني سلمي ترضى عنه الدول المؤثرة في الشأن السوري، كما يرضي المنظومة الدولية بصيغتها الحالية إضافة إلى إرسال رسائل متعددة الإتجاهات تقود إلى نتيجة مآلها أنه لا يمكن بحال من الأحوال تجاهل الدور التركي والمصالح التركية الاستراتيجية في سوريا والشمال على وجه الخصوص، لذلك كان واضحاً أن العلم الوحيد المسموح رفعه إلى جانب العلم ثلاثي النجمات الذي اتفق على اعتباره علماً جامعاً يتفق عليه السوريين الأحرار لثورتهم “العتيدة” هو العلم التركي.
وهدف المنظمون والمحرضون كذلك فيما هدفوا إليه، محاولة تعرية بعض الفصائل وفضح وتوضيح الهوة السحيقة بينهم وبين جماهير الثورة ومدى التباعد والتنافر بين ما تطمح إليه الجماهير وبين المناهج والبرامج التي ارتأتها عديد الفصائل كقوانين حاكمة في مناطق سيطرتها، وإثبات أن وجهة نظر السكان في أغلبهم متشابهة إن لم تكن متطابقة مع الرؤية التركية لإدارة المناطق المحررة.
وقد حاول المنظمون عدم السماح برفع أي راية غير علم الاستقلال خلال التظاهرات، والتجاهل الإعلامي لأي راية أو شعارات لا تتناسب مع التوجه العام الذي أراده المنظمون، كما أراد هؤلاء أن يثبتوا وجود فصائل قوية وكثيرة تؤيد التوجهات الشعبية ومطالبها في التغيير السلمي وهي فصائل قوية ومتماسكة بحكم الدعم والتوجيه التركي لسياساتها وتحركاتها.
إن هذا الحراك الشعبي المستجد بعد توقف طويل، وإن كان منظماً لأهداف سياسية بحكم البطش الذي يمارسه النظام وحلفائه وبحكم حالة اليأس التي انتابت الجماهير الثورية من العدالة الدولية، يبدو ضرورياً ومناسباً و متماشياً مع الحالة العامة ويقدم دليلاً واضحاً على استمرار النهج الثوري لدى الكثير من السوريين والإرادة في إحداث تغيير شامل في الحكم وأنظمته ومؤسساته العسكرية والسياسية والشعبية.
عذراً التعليقات مغلقة