يبدو الاعتراض على تشكيل اللجنة الدستورية مستغرباً بالنظر إلى أن مطالب بدايات الثورة كانت بداية تدور حول إلغاء المادة الثامنة من الدستور وقانون الطوارئ.
لا جدال بضرورة وأولوية دستور عصري لإعادة بناء الدولة؛ لكن الأزمات والانقسامات الوطنية الحادة تستدعي انعقاد مؤتمر وطني تأسيسي يضمن تمثيلاً حقيقياً ومشاركة فاعلة لكافة المكونات والأطياف على المستوى الوطني؛ وينتج عنه عقد اجتماعي يرسم حدود العلاقات والمصالح على المستوى الوطني والإقليمي والدولي؛ ومن ثم يعمل خبراء مختصون بالشؤون القانونية والدستورية على إعداد مشروع دستور يتم عرضه وإقراره في استفتاء عام؛ وتصبح صيانة الدستور واحترامه ومنع العبث بنصوصه أو تجاوزها المهمة الوطنية الأولى.
تبدو المخاوف حقيقية في ظل عدم توافر شروط وظروف انعقاد مؤتمر وطني؛ وأن يكون تشكيل اللجنة الدستورية المنبثقة عن سوتشي مجرد غطاء لتمرير المشروع الروسي للدستور السوري؛ وقد تم تسليمه للنظام والمعارضة والجهات الإقليمية والدولية المرتبطة والمتدخلة بالملف السوري.
عرضت روسيا في مشروعها للدستور أمرين في غاية الخطورة؛ الأول مصطلح جديد كلياً وهو الشعوب السورية الذي يبرز للعلن للمرة الأولى متخطياً المستويات القومية والوطنية نحو تقسيمات عرقية جديدة غير مسبوقة في التاريخ السوري؛ ويبدو إصرار روسيا على تحويل ذلك لأمر واقع من خلال دعوتها لاجتماع سوتشي تحت مسمى مؤتمر الشعوب السورية؛ والأمر الثاني يتمثل في جهود روسية حثيثة لفرض الفيدرالية ضمن رؤيتها السابقة وبدعم دولي واضح؛ مما يعني انفراط عقد الدولة المركزية نهائياً وتكريس سورية نهائياً كدولة فاشلة.
ما زاد من مستوى قلق الناشطين مشاركة هيئة التفاوض العليا في جهود تشكيل اللجنة الدستورية باندفاع وحماس؛ وقبول الهيئة تجاوز عملية الانتقال السياسي وفق القرارات الدولية المتعلقة بها؛ وهذا سيدفعها حكماً للتطبيع مع النظام في نهاية المطاف؛ وهنا تتضح دوافع تسمية جمعة المظاهرات الأخيرة تحت عنوان إسقاط الهيئة وشرعية تمثيلها للثورة وسحب الاعتراف عما يمكن أن توقع عليه.
لكن الهيئة تدافع عن عملها بادعاء تعاملها بواقعية مع ظروفها وإمكانياتها المتواضعة وتراجع الدعم لها؛ وأنها تتعاطى بإيجابية مع التحولات الحادة في المواقف الإقليمية والدولية التي وصلت للتخلي عن الانتقال السياسي باتجاه تعويم النظام؛ كما تدافع عن استمرارها في المشاركة السياسية خشية تجاوزها مع وجود بدائل من جهات معارضة أخرى ناشئة؛ لكن الثقة تراجعت بوعود الهيئة في الحفاظ على الثورة ومطالبها.
بانتظار وافتراض اللجنة الدستورية للدستور العتيد تبرز جملة من التساؤلات المشروعة لا بد من طرحها ومواجهتها بشكل مبكر:
- عدم امتلاك اللجنة الدستورية للتمثيل والتفويض الوطني يعني الطعن بما تقوم به وعدم الاعتراف بكل ما ينتج عنها مستقبلاً.
- لا يمكن تصور كيفية إجازة الدستور وتمريره؛ وليس من السهولة أو الحكمة فرضه من خلال تسوية سياسية؛ كما أنه لا تتوفر شروط وإمكانيات عقد استفتاء على الدستور في ظل أوضاع أمنية معقدة تمنع الإشراف الحيادي على العملية مع استمرار الدولة الأمنية العميقة؛ وبقاء ملايين السوريين خارج منازلهم بين لاجئ ونازح.
- هل سيمثل الدستور بالفعل المصالح الوطنية لكافة المكونات السورية؟ أم سيكون تعبيراً وصدى لمصالح الدول الأخرى في سورية؟ وبالتالي تبقى سورية معرضة للانفجار مع كل خلاف إقليمي أو دولي؛ والاستقرار الهش في العراق ولبنان المهدد بالانفجار باستمرار مثال عملي لذلك.
- والتساؤل الأهم هل باتت الأزمة السورية فعلاً أزمة دستورية فحسب؟ ولماذا تم تغيير مسار العملية السياسية كلياً بهذا الاتجاه؟
يدرك السوريون أن مصيبتهم الأساسية هي نظام الأسد نفسه؛ ولا تنطلي عليهم لعبة تلميع النظام من خلال دستور يفرض عليهم؛ يمكن انتهاك نصوصه بسهولة ووقاحة كما حصل في مسألة توريث السلطة.
لن يشعر السوريون بالراحة والاطمئنان على مستقبلهم سوى بإسقاط النظام بكل مكوناته وإنتاج عقد اجتماعي جديد يلبي مطالب كافة المكونات السورية دون تمييز؛ ولعل التجارب المريرة التي عاشها السوريون تدفعهم لإنتاج دستور يكون محل احترام وتقديس من الجميع.
عذراً التعليقات مغلقة