كل ما يحصل في سوريا من توافقات دولية وإقليمية، يدخل تحت مسمى “المتحول السياسي” وليس الاتفاق الثابت، ما يجعل من تلك الاتفاقات ذات طبيعة مرحلية ومؤقتة وغامضة، تفتقر لشرعية الاجماع الدولي والداخلي من أجل تنفيذها على الأرض، عنوانها الرئيسي مصلحة كل طرف من الأطراف المتصارعة على الساحة السورية.
جاء الاتفاق الروسي التركي يوم 17 سبتمبر/ أيلول الجاري في ذات السياق، مبهماً وغير واضح ببنوده المعلنة، فالتراشق بالتصريحات -من خلال تفسير وتأويل محتوى التفاهم- بدأ قبل أن يجف حبر الاتفاق مذكرة اتفاق سوتشي بين أنقرة وموسكو حول إدلب أكدت على: الإبقاء على منطقة خفض التصعيد في إدلب، واستمرار نقاط المراقبة التركية في عملها بناء على مذكرة مناطق خفض التوتر داخل سوريا والتي شملت (الغوطة الشرقية، ريف حمص الشمالي، درعا، وإدلب) في تاريخ 4 مايو / أيار 2017 حسب ترتيبات أستانة، والتي لم يبق منها سوى محافظة إدلب، حيث عملت روسيا وإيران على دعم النظام “عسكريا وسياسياً” ومكنتاه من استعادة بقية المناطق التي كان من المفترض أن تبقى خارج سيطرته حسب الاتفاق بين ثلاثي أستانة.
ما استحدث الآن حسب الاتفاق الجديد في سوتشي بين بوتين وأردوغان الاتفاق على بناء منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 – 20 كيلو متراً، تفصل بين قوات النظام وميليشياته من جهة، وفصائل المعارضة من جهة ثانية، يتم سحب كافة أنواع الأسلحة من داخلها، وتخضع لرقابة وحماية القوات الروسية والتركية، التي ستعمل على إقرار نظام مستدام لوقف إطلاق النار داخل “منطقة خفض التصعيد” بإدلب، ومحاربة الارهاب داخل سوريا بكافة أشكاله وصوره -بحسب الاتفاق-.
الواضح أن الهدف من إقامة المنطقة “منزوعة السلاح” يأتي لحماية القواعد الروسية ومناطق النظام في الساحل وحماة، وعزل مدينة إدلب ومن فيها عن عمقها باتجاه الداخل السوري، مما يسهل حصار الجماعات “الارهابية الراديكالية” والتخلص منها، بداية داخل المنطقة منزوعة السلاح بحلول 15 أكتوبر/ تشرين الأول القادم، ولاحقاً من كامل محافظة إدلب ، فالمنطقة العازلة بعمق 15 – 20 كيلو متراً من المناطق المحررة تعني انسحاب الثوار من جبلي الأكراد والتركمان وجسر الشغور، مما يعني ابعاد الثوار عن مناطق التماس مع قوات النظام وحلفائه والتخلي عن التحصينات التي تم إنشاؤها، وأي خرق للاتفاق مستقبلاً سيسهل عملية اقتحام إدلب، وهي مناطق استراتيجية لحرب العصابات لايمكن للطيران أن يحسم أي معركة فيها، فضلاً عن أن المنطقة العازلة لا تقلل من القوة النيرانية للاحتلال الروسي وقوات النظام، مما يعني أن بوتين أخذ ما يريده دون قتال -ان تم تطبيق الاتفاق- كما أيضاً ستجري استعادة النظام لطريقي نقل الترانزيت “M4” اللاذقية _ حلب و “M5” حلب _ حماة مع حلول نهاية العام الجاري، طريقان رئيسيان يمثلان شريان الحياة الذي يربط الشمال السوري بمناطق النظام في الساحل وحماة وحمص ودمشق ودرعا حتى معبر نصيب الحدودي مع الأردن، كل هذه التنازلات مع بقية بنود مذكرة التفاهم “مقابل الإبقاء على الوضع القائم في إدلب” على ما هو عليه وعدم الهجوم عليها عسكرياً كبقية المناطق.
اتفاق سوتشي بين أنقرة وموسكو لا يمنع القوات الروسية من استخدام القوة العسكرية من أجل القضاء على “التنظيمات الإرهابية” في المنطقة، في حال لم تتمكن أنقرة من تنفيذ تعهداتها من خلال الحلول السياسية. بوتين وأردوغان يسعيان من خلال اتفاق سوتشي لرسم الحدود “الروسية _ التركية” في الشمال السوري مقابل مصالح مشتركة، قد لا يكون للسوريين المعارضين فائدة منها، خاصة وأن النظام الذي أعلن الموافقة على ما تم التوصل اليه بين أنقرة وموسكو يلائمه بشكل مؤقت، كوسيلة للضغط على الأكراد السوريين ذوي النزوعات الانفصالية، وهنا تتلاقى مصلحة تركيا “التي ترفض وجود اقليم كردي على حدودها” مع مصلحة النظام الذي يعمل لذات الهدف يساندهم في ذلك الموقف الايراني المعادي للأكراد داخل وخارج إيران، فإن حصل ذلك فإن الأكراد المدعومين أمريكياً سيخوضون القتال على جبهتين؛ ضد تركيا، وضد قوات النظام، لكن من المستبعد أن يكون الإبقاء على “محمية إدلب” على وضعها الحالي في مصلحة نظام الأسد.
بوتين لم يخف المصالح الاقتصادية التي يسعى إليها مع أنقرة حين قال “ننتظر خلق ظروف مواتية لترويج المنتجات الروسية في السوق التركية”، وهذا يعني أن وصول البضائع الروسية الى السوق التركية جزء من صفقة ادلب، التي التقت فيها مصلحة الثورة مع مصلحة تركيا في جزئية محددة وهي “منع الحرب على إدلب” تجنب سكانها حمام الدم والدمار، وفرصة لاستعادة حيوية الثورة ونشاطها السلمي وتهيئة الظروف لعمل وطني يكسر الجليد ويُنضج الظروف الدولية والإقليمية لتأييد أهدافها المشروعة بإسقاط نظام الحكم الدموي في سوريا، ويرجح البعض أن نجاح تركيا بتنفيذ تفاهمات سوتشي يمهد الطريق للانتقال إلى السياسي، بالتفاهم مع الولايات المتحدة المتواجدة في الجزيرة السورية “شرقي الفرات” خاصة وأن هذا الاتفاق استبعد إيران التي تطالب أمريكا واسرائيل بإخراجها من سوريا، ويفسح المجال لاستكمال عملية طردها من الأراضي السورية -إن صدقت النوايا الأمريكية والاسرائيلية- وعدم اشراكها في الاتفاق الروسي التركي أولى الرسائل والخطوات العملية للجانب الأمريكي والغربي، “عودة روسيا للالتزام بما تم الاتفاق عليه عند الموافقة الغربية على دخولها الى سوريا” وتطبيق الاتفاق ينهي عملياً الأحلام الروسية بالسيطرة المنفردة على سوريا.
الاتفاق بين بوتين وأردوغان هو أحد أهم الأسباب لمواجهة التفرد الأميركي باتخاذ قرار الانتقال السياسي بعد طرد إيران وأذرعها العسكرية من سوريا، فبوتين يدرك جيداً أن إيران باتت ورقة خاسرة، سواء مع النظام أو ضده، وضرب المواقع الإيرانية في اللاذقية بُعيد اتفاق إدلب بين الروس والأتراك، رسالة أمريكية تقول: مرحلة جديدة بدأت عنوانها
عذراً التعليقات مغلقة