كان بايبس قد كتب في 12 إبريل/ نيسان 2013 مقالاً في صحيفة ناشيونال بوست الكندية، عن الاستراتيجية الواجب أن يتبعها الغرب في سورية، وجاء فيه “على الحكومات الغربية أن تدعم نظام الأسد. وسبب هذا الاقتراح أن القوى الشريرة لا تشكل خطراً كبيراً علينا عندما تتقاتل فيما بينها، كما أن الاقتتال بين الأسد والجماعات الأخرى سيمنع الحسم العسكري وانتصار فريق على آخر. ولو انتصر أحدُ الفريقين، فإنه سيشّكل خطراً أكبر علينا. لهذا، على القوى الغربية أن تقود الأطراف المتقاتلة في سورية إلى حالة من الجمود، بحيث تدعم الطرف الخاسر، لكي يستمر في القتال، من أجل إطالة أمد الصراع”.
ويعمل بايبس مدرساً للتاريخ في جامعات أميركية، وفي الكليات الحربية خصوصاً، عاش سنوات في مصر، ويتقن العربية والفرنسية والألمانية، وشغل مواقع حساسة ساهمت في نشر آرائه في الأوساط الأميركية، فقد تولى رئاسة هيئة فولبرايت للمنح الدراسية للطلاب غير الأميركيين، وأصبح عضواً في مجلس إدارة معهد الولايات المتحدة للسلام، ومديراً لمعهد السياسة الخارجية، بالإضافة إلى عمله مستشاراً لأهم شركات المال والصناعة ومؤسسات الحكم في أميركا، وله موقع على “الإنترنت” متوفر بالعربية، يتحدثُ فيه عن المخططات الأميركية القذرة في المنطقة، بصراحة وفخر.
ويجد المتابع للواقع السوري أنّ ما نظّر لهُ بايبس، قبل ثلاثة أعوام، تمّ تطبيقهُ بإتقان في الساحة السورية، حيثُ دخل الصراعُ فيها حالةً من الجمود، ومن الاستنزاف لجميع القوى المتحاربة، وكلّما رجحت كفةُ طرف على الآخر، يتمّ تزكية الصراع بجرّ أطرافٍ جديدة إليه، وهذا ما يحصل. فيمتدُّ اليوم الصراع في سورية على عدّة مستويات، محليّة وإقليمية ودولية، طائفية وإثنية، وها هي الولايات المتحدة تسعى إلى إدخاله في بعدٍ جديدٍ، هو البعد العرقي بين العرب والكرد. حيثُ تقدّم دعماً مطلقاً لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، فقوّت جناحه العسكري المتمثل بوحدات حماية الشعب، وجعلت منه قوة ضاربة في الشمال والشمال الشرقي من سورية، وحتى تطمس معالم هذا التشكيل العرقي، عمدت إلى دمج بعض الفصائل العربية الصغيرة ضمن صفوفه، إضافة إلى مجموعاتٍ محلية ذات تنوع طائفي، لتشكل “قوات سورية الديمقراطية”، والتي تحكمُ ضمن مناطق سيطرتها بإدارة ذاتية وفيدرالية، أعلنتها من طرفٍ واحد، قبل ثلاثة أشهر تقريباً.
لم يكن موقف الولايات المتحدة من الثورة السورية ضبابياً، كما تصفهُ أطرافٌ في المعارضة السورية، بل كانت لديها استراتيجية واضحة، تعتمد على إطالة أمد الصراع الذي يستنزف كل خصومها ومنافسيها، فلماذا تريدُ أن توقفهُ، وهي تسعى دوماً إلى عالمٍ يُحكمُ من قطب واحد، فقد أحجمت عن دعم السوريين، ومنعت عنهم أي دعم حقيقي من حلفائهم، يفضي إلى حسم الصراع مع نظام الأسد، أو إرغامه على حل سياسي حقيقي. واليوم تمضي بتغذية الصراع بأبعادٍ وأطرافٍ جديدة، وتسعى إلى ترسيم حدود هذه الصراعات بالدّم، ليس في سورية وحدها، وإنّما في المنطقة برمتها، غير مكترثةٍ بمصالح حلفاء الأمس، فها هي تهدّد تركيا بأمنها القومي بكيان كردي على حدودها الجنوبية، وتضيق الخناق على العربية السعودية بإشغالها بحروبٍ دبلوماسيةٍ، تتهمها تارةً بدعم القاعدة في تنفيذ هجمات “11 سبتمبر”، وأخرى بانتهاك حقوق الأطفال في اليمن. وفي العراق، تؤمن الغطاء الجوي والدعم اللوجستي لمليشيات الحشد الشعبي الطائفي التي يقودها قاسم سليماني، عدو الأمس وحليف اليوم.
وبشأن المسار السوري، كان واضحاً، منذ البداية، أن الولايات المتحدة الأميركية ليست في وارد السماح بإسقاط نظام الأسد، لكنها اليوم انتقلت من مرحلة حمايته إلى مرحلة التحالف معه، لرسم “سايكس بيكو” جديدة للمنطقة على دماء أهلها وأشلائهم. وفي المقابل، تعملُ على احتواء القوى السياسية السورية من جهة، وتستخدم روسيا في القضاء على القوى الثورية من جهة أخرى.
عذراً التعليقات مغلقة