رغم أهمية ما قدمه الاتفاق التركي الروسي حول إدلب في وقف هجوم وشيك كان سيؤدي لمأساة جديدة؛ إلا أنه يجب الحذر وعدم الركون والاطمئنان لنتائج الاتفاق؛ واعتباره خطوة مرحلية لا أكثر قد تفرز تداعيات ونتائج خطيرة؛ وهو بالنتيجة من إفرازات أستانة والمناطق الأربعة لخفض التصعيد التي أقرها وما جلبته من كوارث؛ ولعل سنوات عجاف من عمر الثورة علمت السوريين عدم الثقة بمشاريع تضمن مصالح الآخرين على حسابهم؛ إضافة لمسار طويل من السيناريوهات التي ظهرت خلال مراحل وتحولات الثورة.
مع بداية الثورة كان الأمل بسيناريو بسيط يحفظ البلاد من خلال إقدام النظام على إصلاحات حقيقية استجابة لمطالب الحراك الشعبي؛ وتلاشى ذلك مع لجوء النظام للحل الأمني والحسم العسكري؛ وبات هناك سيناريوهان متناقضان قسمت البلاد في ضوئهما بشكل جذري إلى نظام وثورة.
في حين وضع النظام أمامه خياراً واحداً فقط هو القضاء على الثورة بالقوة؛ مرت قوى الثورة والمعارضة بتحولات متتالية غيرت من مسارها وتوجهاتها؛ وحصل ذلك بتأثير الضغوط والتدخلات الخارجية للدول الداعمة.
سرعان ما تلاشى الأمل الضعيف بسيناريو مشابه للحالة التونسية بهرب بشار الأسد؛ ثم ضاع السيناريو المصري مع تراجع الرئيس الأمريكي أوباما عن توجيه خطاب شديد اللهجة بتنحي الأسد كما فعل مع مبارك.
توجهت الدول الداعمة للثورة لتبني السيناريو الليبي؛ وساعد على ذلك ظهور طلائع الجيش الحر لحماية المتظاهرين والرد على عنف النظام؛ وتم تشكيل المجلس الوطني السوري على عجل دون استكمال شروط التأسيس والأنظمة وطرق العمل؛ وجرى اعتماد علم الاستقلال لاستكمال المحاكاة؛ ثم تراجعت تلك الدول عن وعودها بإسقاط النظام؛ ولم تقدم الدعم المادي والمعنوي للمجلس مما أدى لضعفه وتراجع فعاليته؛ وظهر فيما بعد أن دور المجلس لم يكن سوى احتواء الثورة وتأطيرها بما يشبه عمل المعارضة السياسية.
تحولت مواقف الدول الداعمة بشكل جذري واتجهت نحو تبني مسار التفاوض والبحث عن حل سياسي مع النظام على أساس جنيف 1؛ ومن أجل ذلك جرى تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وترقين عمل المجلس الوطني؛ وكان هذا المسار المخادع لجر الثورة والمعارضة لتقديم تنازلات جوهرية والقبول بالتعامل مع النظام.
مع المماطلة في مسار جنيف؛ ومن أجل تقاسم النفوذ والمصالح على الأراضي السورية بين روسيا وتركيا وإيران جرى تشكيل مسار أستانا للتفاوض؛ وكان يهدف لترويض الفصائل وإدخالها في لعبة الهدن والمصالحات تمهيداً للاستفراد بها وتصفيتها.
بحجة توسيع تمثيل المعارضة فرضت القوى الدولية تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات وضم ما سمي بمنصات موسكو والقاهرة بسقفها المنخفض عن مبادئ الثورة إلى المعارضة؛ وأدى ذلك لتشتت التمثيل الرسمي للثورة والمعارضة وخروجها من دائرة القرار والمشاركة وحتى التشاور.
دفع النظام لتشكيل المزيد من المنصات والهيئات تحت غطاء المعارضة الوطنية في الداخل؛ ثم استغل ذلك من خلال مهزلة سوتشي برعاية روسيا؛ ونتج عنها طلب تشكيل لجنة دستورية وإجراء انتخابات كحد أقصى دون الدخول في أي انتقال سياسي فعلي.
بانتظار جلاء حقيقة اتفاق إدلب الأخير وطريقة تطبيقه؛ وكيف سيتم تشكيل المنطقة العازلة المنزوعة السلاح الثقيل بعمق 10 -15 كيلومتر بإشراف روسي تركي مباشر؛ وكيف سيتم إخراج التنظيمات المصنفة إرهابية منها؟ وإلى أين؟ يمكن النظر إليه كاتفاق مرحلي مؤقت لا أكثر.
منع اتفاق إدلب الروس والنظام من تحقيق الانتصار الحاسم والأخير على الثورة والمعارضة؛ وظهر تراجع واضح للدور الإيراني على حساب تطور الدور التركي وظهور أهميته؛ وبرز في النهاية أن الغرب يستطيع لجم الروس عندما يريد ذلك.
باتت سورية مقسمة بين ثلاثة مناطق رئيسية؛ الأولى تخضع لسيطرة النظام بإشراف روسي مباشر وتواجد إيراني؛ الثانية في شمال حلب وإدلب ومحيطها تخضع للسيطرة التركية المباشرة بوجود المعارضة باتفاق مع الروس؛ أما الثالثة في الشمال الشرقي الرقة ودير الزور والحسكة فهي تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية وحماية أمريكية غربية مباشرة.
بات السوريون خارج اللعبة تماماً في الحسابات والتفاهمات الإقليمية والدولية؛ وهناك مخاوف حقيقية من أن تكون المناطق الثلاثة مقدمة لتقسيم سورية؛ أو ربما لدمجها في فيدرالية ضمن دولة مركزية ضعيفة تسمح بالحفاظ على مصالح الدول الفاعلة.
في ظل استمرار الصراع الطويل تاريخياً على سورية؛ لن ينفع السوريين سوى سيناريو وحيد يقدمه الوطنيون المخلصون الأحرار؛ وهو ما يمثل المهمة الملحة والعاجلة أمامهم.
عذراً التعليقات مغلقة