الهويات قاتلة بالفعل وفق كتاب أمين معلوف الشيق تحت نفس العنوان؛ وهي كذلك حسب شهادة علي حرب في كتابه خطاب الهوية.
ربما لذلك ظهرت دعوة الشيخ العرعور بعد أشهر من اندلاع الثورة لتكسير الهويات الشخصية وإتلافها بحجة بحجة أنها من إصدار النظام؛ ورغم طرافة تلك الدعوى ونتائجها القاسية لكنها لم تكن مجرد حركة احتجاج عفوية؛ بل تعبير عن أزمة مفتوحة وشرخ اجتماعي عميق من الصعب إصلاحه.
لم تندلع الثورة السورية لأسباب تتعلق بالهوية الوطنية بشكل مباشر؛ لكن شعار الشعب السوري واحد الذي أطلقه المتظاهرون بداية كان يشير إلى وعي وإدراك فطري مبكر لطبيعة صراع الهوية الدامي مع النظام؛ كونه يجيد التلاعب بورقة الطوائف والأقليات والأطياف المتعددة للشعب السوري؛ ولم يكن أمام النظام في مواجهة طويلة ضد مجتمع متماسك الأطياف سوى تفكيكه ودفع الاحتجاجات قسراً باتجاهات بعيدة عن أهداف الثورة.
جهدت القوى الثورية والسياسية للمعارضة في الحفاظ على نقاء الثورة وتجنب الطائفية والشعبوية في هيئاتها وفعالياتها المختلفة؛ ومع ذلك وقعت في أخطاء كثيرة معظمها بسبب ردود الأفعال على ممارسات النظام التي تجاوزت حدود المتوقع والمعقول؛ إضافة لاستعجال هزيمة النظام.
في ظل غياب النقد الذاتي برزت الكثير من الممارسات المستهجنة والقاتلة تحت غطاء الثورة؛ وكان توجيه النقد أمراً غير مستساغ أو مقبول وربما يعتبر خروجاً عن الإجماع الثوري ويصنف في خانة دعم النظام؛ ولا يعني النقد المتأخر التنصل من مسؤولية ما حدث أو التهرب ورمي المسؤولية على الغير.
خلال عقود من استيلاء البعث على السلطة عاشت سورية أزمة هوية عميقة قابلة للانفجار؛ حيث فرض نظام الحكم الشمولي إلغاء التنوع والتعدد في المجتمع؛ وبدعوى القومية العربية صادر النظام الحقوق القومية لكثير من السوريين من أكراد وتركمان وشركس وآشوريين وأرمن وغيرهم؛ كما منعهم من التعبير عن هوياتهم الثقافية؛ وعطل الحياة السياسية والفكرية في البلاد تحت غطاء الاشتراكية والتقدمية.
رغم ادعاءات النظام محاربة الطائفية والعشائرية والمناطقية؛ لكنه كان يخترق الطوائف والأقليات من خلال فرض زعامات فيها تابعة له يمكن استغلالها في أوقات الأزمات.
من خلال النقد والتقييم تظهر نتائج سلبية للعديد من الممارسات الثورية؛ رغم تبنيها في وقتها من قبل معظم الهيئات والشخصيات الثورية المختلفة؛ وكمثال على ذلك:
قصة علم الثورة: يظهر أرشيف الثورة السورية الشباب الأوائل وهم يرفعون العلم السوري خلال المظاهرات وهو أمر تحول لخيانة ثورية فيما بعد؛ وشهدت مظاهرة حماة المليونية رفع أكبر علم في تاريخ الثورة مما دفع النظام للرد على ذلك؛ ثم بدأت تبرز دعوات لنبذ العلم باعتباره يمثل النظام لا الدولة التي انهارت؛ وفي تقليد واضح للتجربة الليبية جرى اعتماد العلم السوري القديم علماً للثورة؛ وكرس ذلك من خلال أربعاء علم الثورة الذي نظمته صفحة الثورة السورية.
تتناقض فكرة علم الثورة مع شعار الثورة الأول الشعب السوري واحد الأمر الذي يمكن تحقيقه من خلال الالتزام برمز واحد للسيادة الوطنية؛ كما تفرض بالنتيجة قطيعة نهائية بين السوريين؛ وتجعل الحل الوحيد الممكن هو تحقيق انتصار حاسم؛ ومع ظهور الجيش الحر بات القتال بين طرفين يرفعان نفس العلم أمراً غريباً ومستبعدا.
فشلت جهود الاعتراف بعلم الثورة بديلاً عن علم النظام؛ فقد كان ذلك يعني سحب الاعتراف بالنظام وإسقاطه؛ وهو ما كانت ترفضه جميع المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية؛ ومنذ وقت مبكر كانت الصورة واضحة في تعويم النظام.
أسماء الجمع والفعاليات الثورية: رغم اللجوء للتصويت في اعتماد التسمية؛ إلا أن ذلك لم يخلُ من تأثيرات وضغوط في طرح الأسماء المقترحة للتصويت؛ وكذلك استجابة لضغوط ورغبات شعبية؛ وتأثراً بالظروف والتطورات الميدانية؛ ومن المفيد دراسة أسماء الجمع ودلالاتها لفهم مسار الثورة وتحولاته؛ وربما كان من الأفضل عدم الالتزام بإطلاق تسميات على كافة الفعاليات للابتعاد عن الإحراج والانشغال في البحث المستمر عن تسميات جديدة.
ما حصل أنه تم إطلاق تسميات طائفية وقومية بداعي استجلاب الطوائف والقوميات إلى صفوف الثورة؛ كما أنه تم في بعض الجمع طلب النصرة والتدخل الدولي وهو ما حصل بالفعل في النهاية فماذا كانت النتائج؟
وبكل الأحوال لا يمكن قبول أو تبرير إطلاق تسميات لها دلالات طائفية مباشرة.
عسكرة الثورة: جاءت العسكرة وظهور الجيش الحر كرد فعل على ممارسات النظام في استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين؛ وكان الهدف الأساسي حماية المتظاهرين قبل أن يتحول باتجاه تحرير مناطق من سيطرة النظام؛ وصولاً لتدفق الجهاديين المتشددين وظهور التنظيمات والإمارات والخلافة مما أصاب الثورة في مقتل.
انتشرت الميليشيات الطائفية ومعها ثقافة القتل والعنف في المجتمع؛ ويحتاج رأب الصدع لأجيال قادمة.
هيئات ومؤسسات المعارضة والثورة: دخلت المعارضة في المحظور بقبول محاصصات على أسس قومية وطائفية في محاولة لاسترضاء الأقليات وادعاء حمايتها؛ وفتح ذلك الباب لظهور مطالب قومية وطائفية وترسيخ الانقسام العمودي في المجتمع؛ مما يؤسس ويعطي إشارة مستقبلية غامضة؛ وفشلت المعارضة في تقديم مشروع وطني جامع بعيداً عن الاستعلاء ولغة خطاب الانتصار.
بعد كل ما جرى ويجري؛ لا يمكن العودة لحالة ما قبل اندلاع الثورة في 2011؛ فقد تحركت عناصر الهويات المتعددة في المجتمع ولم يعد بالإمكان تجاهلها؛ ولا مناص من البحث عن وثيقة عهد وطني جامعة أو عقد اجتماعي جديد يضمن حقوق ومصالح كافة المكونات القومية والدينية السورية على قدم المساواة.
المشكلة العويصة هي كيف يمكن تجاوز مصالح الدول التي تريد فرضها من خلال الدستور السوري القادم وزرع بذور الانقسام من خلالها؟ وهل نستطيع بناء هوية وطنية جامعة تحصن سورية والسوريين من انهيارات قادمة؟
عذراً التعليقات مغلقة