سخيف وماكر تصريح ذلك الأجرد المتعجرف الذي ربما لم تمكنه الظروف السياسية في ايطاليا من اعتلاء منصب أعلى من مجرد مبعوث أممي فاشل يتلقى إملاءات مشغليه بشكل فظ وواضح، ودون أن يتاح له إبداع أو مجال لاختبار ملكاته في حل واحدة من أكبر المعضلات في الصراع القائم في سوريا منذ ثمان خلت.
فقد أدلى بتصريح تحدث فيه عن استعداده لدخول إدلب بنفسه بهدف إخراج المدنيين العالقين هناك، والذي ينفطر قلبه على مصيرهم في ظاهرة هي الأولى من نوعها بعد التنكيل والتشريد الذي طال ملايين السكان في طول البلاد وعرضها والذي لم يؤثر ولو قيد أنملة في مشاعر “دي مستورا” المرهفة والمفعمة بالأخلاق والإنسانية وهو الذي بدأ في مراحل الصراع المختلفة كرجل جامد و بليد لا يهتز له جفن ولو كسفت الشمس، ولم يحدد طريقة الحماية التي ينشدها ولا الطريقة الآمنة التي يريد حماية المدنيين بها، وكأنه ينتظر وحياً سماوياً أو حتى أرضياً حال وصوله إلى إدلب يأمره بأن يعرج بهم إلى السماء.
غموض المشهد والانتظار المميت هو السمة الوحيدة الغالبة التي تلف المدينة وريفها، في ظل التصريحات والتلميحات التي تصدر عن هذا الطرف أو ذاك، والتي لا تزيد المشهد إلا تعقيداً وغموضاً.
لا أحد في الداخل من الهيئات السياسية أو الفصائل المسلحة، ولا في الخارج من الدول المؤثرة في ميدان الصراع يقدم شرحاً وافياً وصادقاً للترتيبات المستقبلية للمدينة وعموم الشمال الخاضع لسيطرة الفصائل ذات الولاء المتعدد والمتناقض، ولا أحد ملك الجرأة ليصارح الجماهير التائهة بفحوى الترتيبات والتفاهمات التي تعقدها الأطراف المختلفة والمتعلقة بمستقبل الأرض والسكان والحدود والضوابط بين هذا الطرف أو ذاك أو هذه الأداة أو تلك.
النظام يبدو متلهفاً ومستعجلاً للحسم، ويدعي أنه يصم أذنيه عن كل ما حوله ولا يكترث للتصريحات أو الرغبات التي تبديها الأطراف المختلفة بين الحين والآخر، في حين يبدو الموقف التركي أكثر لبساً وغموضاً ويبدو وكأن الحياء والخجل هو الذي يمنعه من التصريح عن نتائج اتفاقيات وتفاهمات مع الروس والتي يعتقد أنها أقل بكثير من مستوى أمل وطموحات الثائرين المعارضين وإن كانت تحقق الحد الأدنى مما كان يرنو له الترك من حماية أمنهم القومي والذي حددت الاستراتيجية التركية خطرين أساسيين يهددانه ويمثلان خطراً داهماً وهما المسألة الكردية وأحلامها الانفصالية، والتشدد الإسلامي والذي يبدو نقيضاً فكرياً وثقافياً للإسلام المعتدل بشكله المتصوف والذي يطغى على المشهد الإسلامي التركي.
بينما يبدو موقف الروس أكثر تركيباً وتعقيداً، فهو لا يبدأ عند أحلام مختلطة من القيصرية والبلشفية تراود الكرملين وأجهزته، ولا ينتهي عند فرض النفوذ الإيجابي والرغبة في تأكيد قطب جديد قديم قوي ومؤثر ورغبة بوتين ذا العيون الثعلبائية في طمس رجليه النحيلتين في مياه المتوسط الدافئة، أما أمريكا فهي تبدو غامضة ومتناقضة إلى حد كبير، كغموض وتناقض ترامب ومزاجيته وتشابك أفكاره وليس معلوماً إن كان سيكتفي من الكعكة بمناطق شرق الفرات والقضاء على النفوذ الإيراني والإسلامي المتطرف وضمان أمن سرمدي لإسرائيل.
أما إيران فهي الأكثر وضوحاً وصاحبة المنهج الأكثر نضجاً بين جميع المؤثرين، فهي تسعى للانتشار وإعادة أمجاد كسرويه عبر خزعبلات شيعية كاذبة، فكسرى هو الغاية وليس الحسين سوى مطيته، أما أوربا والعرب فتبدو دولهم تسير في فلك مرسوم ومنظم يدور في حلقة الروس أو الأمريكان وتأثيرهما محصور بالقدر الممكن والمسموح من هاتين القوتين.
والغائب الوحيد عن أي دور يذكر ولو كان ثانوياً هو الممثلين القسريين لـ”المعارضة”، والذي لا تتعدى أدوارهم عن مجرد توابع وأدوات بيد هذا الطرف أو ذاك، ولذلك يكون العجز والسذاجة هو الصفة الغالبة التي تتسم بها أقوالهم وأفعالهم على حد سواء، وهذا ينسحب طرداً وبحكم واقع الحال على القواعد الشعبية التائهة والتي لا يجوز بحال اتهامها أو مجرد تحميلها مسؤولية الوهن والضعف الذي أدى إلى فقدان القوى المعارضة للحاضنة الداعمة، وذلك نظراً لليأس تبعاً لتاريخ مرير وحافل من الأفعال المشينة التي انتهجتها فصائل المعارضة المختلفة، وقاد إلى ضياع البوصلة الثورية وإفلات الدفة وعدم التمكن من إعادة السيطرة عليها بحكم الولاءات وتنفيذ الأجندة الخارجية بأدوات ودماء داخلية.
تبدو “إدلب” كمدينة تتقاذفها وتتهافت على التجارة بها وبمصير أهلها وقاطنيها أطراف كثيرة ومتعددة تزاود عليها وعلى مآلات سكانها، وتركت كما مدينة صغيرة ابتلعها محيط صاخب ومتلاطم، ولسان حالها كنادرة وردت في تراجم العرب تقول: “ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا من حولي”.
عذراً التعليقات مغلقة