حتى 25 أيلول/ سبتمبر المقبل، يمكن لزائري “متحف باردو” في تونس العاصمة أن يشاهدوا مجموعة “الآثار الأفريقية القديمة لمتحف أوفيزي الإيطالي”. كان يمكن للزائرين أن يروا نفس المجموعة ضمن مقتنيات “متحف باردو”، حيث أنها آثار جُمعت من تونس، غير أن للتاريخ اعتبارات أخرى. هكذا نقف على مفارقة غريبة: متحف تونسي “يستعير” آثاراً تونسية لعرضها.
المجموعة المقدّمة تتمثل في آثار موزّعة بين أحجار وأوان وأسلحة وغيرها، يعود معظمها إلى العصر الروماني (من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الرابع بعده)، جمعها الطبيب الإيطالي جيوفاني باني حين أتى إلى تونس عام 1677، و”نقلها” معه إلى بلاده حين كان في طريق العودة بعد إنجاز مهمّة في بلاط المراديين (حكّام تونس وقتها)، حيث نجح في شفاء الباي مراد الثاني من مرض أعجز جميع أطباء مملكته.
كان نجاحُ المهمّة الطبّية سبباً في جعل مراد الثاني لا يرفض طلباً لباني، حتى إذا اقترح عليه الأخير أن يجمع بعض الأوابد من العصور القديمة لم يجد الباي التونسي سبباً للرفض، بل لعلّه استغرب من الطلب البسيط لطبيبه! هكذا وجد “باني” نفسه، قبل ظهور طائفة الأركيولوجيين، ينتقي الآثار من مواقع متنوّعة من تونس كما يحبّ ويشتهي.
خيارات باني تؤكّد أنه لم يكن طبيباً فحسب، إذ نجد أثر انتقاء مدروس في مجموعته، فهي في المحصلة آثار ذات علاقة بهويته كإيطالي، حيث جمع آثاراً رومانية تحديداً، ولم يقع على آثار أخرى فينيقية أو بيزنطية كانت منتشرة في تونس، وهو ما يشير أن لديه خلفية تاريخية.
ربما تجدر الإشارة هنا إلى أن مصطلح “الآثار الأفريقية” لا يتفق مع المعنى المتداول حالياً لأفريقيا، أي القارة برمتها، فالمقصود بأفريقيا في العصر الروماني هي المنطقة التي تمسحها تقريباً خريطة تونس اليوم، أي أن المقصودة بالآثار الأفريقية هي الآثار الرومانية في المنطقة التي كانت تسمّى أفريقيا وقتها.
من جهة أخرى، فإن معظم الآثار التي ذهبت مع باني إلى إيطاليا تحمل كتابات وهو ما يعني أن لها قيمة توثيقية إلى جانب قيمتها التاريخية أو الجمالية، وقد يكون نقلها المبكّر من مكانها الأصلي قد أضاع على مؤرّخين لاحقين فرصاً لفهم أشياء تتعلق بالمواقع الأثرية.
حكاية باني مع “الآثار الأفريقية” هي حكاية من بين آلاف الحكايات الأخرى، فلكل قطعة أثرية خرجت من تونس ومصر والعراق وغيرها من البلاد العربية، ومن بلاد العالم، قصة تتقاطع مع قصة “الآثار الأفريقية” أو تفترق معها، ولا فرق بينها في المحصلة، فهي جميعها آثار مسلوبة، بطرق عنيفة وأخرى ناعمة، تستقرّ اليوم في متاحف الغرب، ولا تأتي إلى أوطانها إلا في شكل استعارات.
هذه الاستعارات يمكن تقديمها كسرقات قديمة، ولكن يمكن تقديمها كعناوين صداقة بين الدول، وشراكات بين المتاحف، وذلك ما يحدث غالباً في أيامنا. هنا، لعل حكاية باني تعيد نفسها: فمن نلوم؟ الأجنبي الذي ينقل الآثار إلى بلاده، أم الأهلي الذي يفتح له الأبواب لنقلها؟
عذراً التعليقات مغلقة