في أزمنة الفشل الجماعي وشعور المجتمعات بالعجز، يسود البحث عن الإنجازات الفردية والأبطال الخارقين، وإن صَعُب العثور عليهم، فإنه يتم تصنيعهم وتسويقهم ومن ثم استهلاكهم، لأن العاجز بحاجة لقصة يحكيها لأطفاله قبل النوم، ولا سبيل لديه إلا الهروب إلى التاريخ لاستحضار منتصر قديم، أو اللجوء إلى فبركة “بطل” من قومه، لمقارعة الهزائم التي تملأ جنبات الواقع، والانتصار عليها في الوهم لإثبات الأحقية في الحياة!.
ولعلّ العرب هم الأبرع تاريخياً في فن صناعة الخوارق والخارقين، وحتى في صنع الآلهة، ذلك أنهم ما عاشوا النجاحات الجمعية وعبء الإسهام في النجاح إلا لماماً، فصار يكفي الأمة بطل واحد ليكون كل أفرادها أبطالاً، وكأنَّ المُنجَزَ وواجب التفوق وإعمار الأرض بالنجاحات فرض كفاية أو استثناء، مع ملاحظة أن تلك المجتمعات هي أول من ينكث العهد ويتخلى عن البطل لمصلحة بطل جديد، تماماً كمثل من يصنع إلهاً من تمر ثم يأكله مع أول عضة جوع.
هذه المقدمة سقتها لمن تعاطوا سلباً أو إيجاباً مع قضية الصبية الفلسطينية الصغيرة “عهد التميمي”، والتي لا تشكل ظاهرة بالمطلق كما تم التسويق لها، بل هي جزء عادي من سردية قضية طويلة معقدة، اختلف أهلها وأهلهم العرب في كيفيات وآليات التعاطي معها، إلا أن جوع كثير من الشعاراتيين وقلة من الغيورين، لانتصار يبقيهم على سكة الأمل، جعلهم يصدرون الفتاة كحالة مقاومة خارقة، ما جعلها “أيقونة” يحق لها القول إنها “تمثل الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية”!!.
“عهد” التي لا تملك عمقاً فكرياً أو نضجاً سياسياً، وهذا طبيعي بحكم سنّها، أحرجت كثيرين ممن شاركوا في عملية أسطرتها، عندما أثنت أمس على “سيد المقاومة حسن نصر الله”، الذي تمت أسطرته سابقاً، قبل أن يختار الظهور كزعيم ميليشيا طائفية، يُشرعن قتل نساء وأطفال سوريا وهو في طريقه إلى القدس!.. ذلك الطريق الذي يرسمه المرشد الإيراني ويمر في العراق وسوريا واليمن والبحرين… وصولاً إلى كل عواصم العرب وعلى دمائهم، عدا القدس..
وبناء عليه، فإن ما يجب مراجعته وشتمه، ليس عهد التميمي بالتأكيد، وإنما الفكر الذي أنتج أسطورة عهد، وأوصلها إلى تورّم ذات حجب عنها الحقائق والمسالك لترى نفسها الوطن والقضية، وعلى مقربة منها ومن أمامها وخلفها فصائل تقتتل منذ سنين، وسياسيون “رموز” متمسكون بالعداء البينيّ كتمسكهم بعداء الكيان المحتل لبلدهم، وقريباً من “عهد” وراء الحدود مباشرة، يشارك أبناء بلدها من قوميين ويساريين في سفك دماء أطفال سوريين، باسم القدس، وباسم المقاومة، وباسم فلسطين.. فمن هو الشعب الذي تمثله “عهد”؟.. أذاك الذي يقتل السوريين أم الذي يقاتل الصهاينة؟..
إن نضوب الشجاعة وشعور العجز حتى عن قول كلمة حق، جعل المسلوبين يرون في فلسطين السبيل الأكثر إقناعاً لأنفسهم في إظهار مكنونات البطولة والتغني بقيمها، في ظل راهن سياسي ما زال يسمح بإظهار العداء للكيان الإسرائيلي المحتل، وبهذا يتحقق نصران: عروبي وديني، والأمر لا يكلف صاحبه أكثر من تدبيج شعار أو تفصيل خطبة، ليعوض نفسه عن هزيمتها أمام الاستحقاقات التي يُرهن بها مصيره ومصير بلده، فلا هو ينتقد أو حتى يتعاطى مع قضايا معتقلي الرأي وحقوق الإنسان في بلده، الذين كانوا يقاومون كما تقاوم “عهد”، ولا هو يلمح مجرد تلميح لقضايا السياسة التي تحدد مستقبله ومستقبل أبنائه، وسيصل به الشقاء إلى تحديد موقفه من “عهد” بحسب موقف ولاة الأمر، فربما بعد مديحها لنصر الله اليوم، سيضطر كثيرون لأكل صنم التمر الذي صنعوه بالأمس، إلا أنهم – وبكل أسف- سيصنعون واحداً غداً، فالحياة بلا أصنام وأبطال مسكونةٌ بالهزائم، ونحن لا نستطيع إلى البطولات سبيلاً، لكننا أبرع من يؤسطرها، ويغتالها.
عذراً التعليقات مغلقة