في أربعينات القرن الماضي، وصل شاب يهودي إلى الولايات المتحدة قادما من أراضي فلسطين التاريخية، كان في مهمّة لاقتناء أسلحة وتجنيد مقاتلين للانخراط في جيش من أجل قتال العرب.
حصل الشاب، الذي يعرف باسم بيتر بيرجسون، على تمويل من رجال عصابات يهود، لكن رغم أنه لجأ إلى تغيير اسمه وإخفاء هويته، فإن عناصر مكتب التحقيق الاتحادي الأميركي “أف.بي.آي” توصلوا إليه، ووضعوه تحت المراقبة وحاولوا ترحيله.
بدأت هذه القصة خلال الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى بعد انتهاء الحرب. وتكشف بعضا من تفاصيلها مايا جيوز، الباحثة والمحاضرة في جامعة تل أبيب، وأعادت شوشانا كوردوفا، المحللة في صحيفة هآرتس الإسرائيلية نشر هذه التفاصيل.
سلّط تحليل هآرتس الضوء عن كيف اكتشف أستاذ جامعي إسرائيلي معلومات صادمة تبيّن الصلة بين رجال عصابات يهود وبيتر بيرجسون الذي عمل في الولايات المتحدة خلال حقبة الأربعينات لمساعدة منظمة إرجون على اختراق فلسطين التاريخية، وكذلك يهود أوروبا.
من كوك إلى بيرجسون
في عام 1940، وصل إلى نيويورك هيلال كوك، وهو عضو في منظمة إرجون المسلحة السرية قبل تأسيس إسرائيل. ولتجنّب اكتشاف كونه قريبا من الحاخام الراحل أبراهام إسحق كوك، الذي كان أول حاخام بارز من اليهود الأشكيناز في فترة الحكم البريطاني بفلسطين، قام كوك بتغيير اسمه فأطلق على نفسه اسم بيتر بيرجسون.
في نوفمبر عام 1942، قرر كوك مراجعة أهداف الوفد الصغير التابع لمنظمة إرجون، وقرر بدلا من شراء معدات وجمع أموال لصالح اليهود المقيمين بفلسطين قبل ظهور إسرائيل أن تتغير مهمة الوفد لتكون “إنقاذ يهود أوروبا”.
لتحقيق هذه الغاية، قام كوك بتسجيل أسماء زملائه في منظمة إرجون بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى أسماء فنانين وأعضاء في الكونغرس، لإيصال رسالة عما يجري ليهود أوروبا.
اشتبه الإف.بي.آي في أنشطة بيرجسون وفي الطريقة التي كان يجمع بها الأموال. وبالفعل، تواصل جيه. إدجار هوفر مدير الإف.بي.آي مع رجاله في فيلادلفيا عام 1946 وطلب منهم أن يعرفوا، خلال عشرة أيام لا أكثر، ما الذي يمكن القيام به لترحيل كوك. لكن لم يحدث شيء.
ويقول المؤرخ روبرت روكواي، الذي توصل لموقع ملفات الإف.بي.آي عن بيرجسون وعن إرجون، “في النهاية عاد بيرجسون إلى فلسطين. كان قد سئم من تعرضه للمراقبة المستمرة. وكان على محاميه التواصل بشكل دائم مع مكتب التحقيقات الاتحادي ووكالات الهجرة”.
بالصدفة البحتة، وقع يدا روكواي (79 عاما) ويعمل كأستاذ فخري للتاريخ اليهودي في جامعة تل أبيب، على ملفات تخص الإف.بي.آي عن بيرجسون وذلك خلال السنوات الأولى من البحث عن رجال العصابات اليهود في الولايات المتحدة.
وقال روكواي، وهو مؤلف كتب بينها كتاب “لكنه كان بارا بأمه: حياة وجرائم رجال العصابات اليهود” الذي صدر عام 1993، “أدركت أن ممثلين عن منظمات اليهود الشرقيين قد تلقوا أموالا منهم (رجال العصابات اليهود). حين أجريت مقابلة مع بعضهم ومع ممثلين عنهم، أخبروني بهذا الأمر. لقد أمّنوا شراء أسلحة وطائرات وأسلحة آلية لهم ليتمكنوا من خلالها من قتال العرب بعد الحرب العالمية الثانية”.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك أيضا عصابات مافيا غير يهودية تسيطر على ميناء نيويورك. وقامت هذه العصابات بتسهيل خروج شحنات الأسلحة إلى إسرائيل.
وتبيّن من الملفات أن رقابة الإف.بي.آي لما كانت تعرف باسم مجموعة بيرجسون استمرت طيلة الفترة بين عامي 1941 و1948. وخلال تلك الفترة، تنصّت الجهاز الأمني الشهير على محادثات هاتفية بين أعضاء المجموعة، وتم فتح رسائلهم البريدية والنبش في قمامتهم، بل وزرع مخبرين بينهم.
تضخم ملف بيرجسون ليضم المئات من الصفحات التي احتوت على تفاصيل عن المراقبة ومراسلات بين قيادات بارزة في الإف.بي.آي، وتقارير عن اعتقالات وعمليات تفتيش ومراقبة. لكن رغم كل هذه الجهود القانونية والمحاولات الرسمية لوضع حد لأنشطة المجموعة، فإنها ظلت قادرة على التأثير في الرأي العام الأميركي.
لجنة الطوارئ
أسست مجموعة بيرجسون “لجنة الطوارئ لإنقاذ الشعب اليهودي من أوروبا” والتي تولت الحشد لصالح إصدار تشريع. وعملت كذلك على تنظيم المهرجان الموسيقي “لن نموت أبدا”، والذي قال روكواي إن إيلينور روزفلت قرينة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت قد حضرته في واشنطن.
وقام الكاتب السينمائي الشهير بن هيشت بكتابة النصوص الخاصة بالمهرجان الموسيقي بمساعدة من كيرت ويل.
وتولى هيشت كتابة الإعلانات التي نشرتها “لجنة الطوارئ” في صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست بهدف إحداث صدمة لدى الشعب الأميركي ومن ثم الضغط على الإدارة للتحرك من أجل دعم اليهود في أوروبا.
في أحد تلك الإعلانات، الذي نشر في نيويورك تايمز في السادس عشر من فبراير عام 1943، كان النص يقول “للبيع للإنسانية: 70000 يهودي روماني. احصل على بشر حقيقيين بمبلغ 50 دولارا للواحد. لقد أتعب قتل اليهود رومانيا، وهناك سبعون ألف يهودي ينتظرون الموت في معسكرات الغاز الرومانية. تحركوا الآن”.
ووفقا للإعلان، فإن رومانيا كانت قد أعدمت بالفعل مئة ألف من اليهود فيها على مدى عامين وكانت مستعدة للحصول على أموال مقابل العفو عن الباقين.
وكتب روكواي يقول “زعماء اليهود الأميركيين كانوا يخشون من أن تتسبب كل هذه الضجة في إذكاء مشاعر معادية للسامية”.
ومع ذلك، آتى الضغط الذي مورس على جماعة بيرجسون وحلفائها ثماره وساهم في قيام الإدارة الأميركية في التاسع يناير عام 1944 للمجلس العالمي للاجئين، الذي ساهم في تهريب نحو مئتي ألف يهودي وإعادة توطينهم.
ويقول روكواي “أظهرت الوثائق أن الإف.بي.آي سعى خلال الفترة بين عامي 1942 و1945 لترحيل بيرجسون ومضايقته. لقد لاحقوه في كل مكان وتنصتوا على هاتفه ولم يتوقفوا عن إرسال عملاء لمراجعة سجلات المنظمة”.
وأضاف “في النهاية سئم مكتب التحقيقات الاتحادي الموقف ورغب في إلحاقه بالجيش الأميركي. كان شابا قويا (ولد بيرجسون عام 1915) وباستطاعته الخدمة في الجندية. لكن كانت في الولايات المتحدة قوانين يخضع لها الإف.بي.آي. كان لدى بيرجسون العديد من المحامين تولوا الدفاع عنه على مدى عامين. كان يعرف أنه خاضع للمراقبة”.
ووفقا لما قاله روكواي، فإن زعماء اليهود، بمن فيهم ناحون جولدمان الذي شارك في تأسيس المؤتمر اليهودي العالمي وستيفن وايز الحاخام الإصلاحي، كانوا يطلقون على بيرجسون ومنظمة إرجون اسم “الإرهابيين اليهود القادمين من فلسطين”.
وفي عام كان جولدمان يبلغ مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية بشكل مستمر بأن وايز يعتبر بيرجسون “عدوا للشعب اليهودي لا يقل خطورة عن هتلر”.
ومن مصادر الدعم المثيرة للدهشة لبيرجسون عميلان لمكتب الإف.بي.آي كانا يتتبعان خط سير الأموال بين رجال العصابات اليهودية ومنظمة إرجون، قبل أن يقوما هما بنفسيهما بتقديم مساهمات للجنة الطوارئ عام 1943.
عاد بيرجسون إلى فلسطين المحتلة عام 1948 بعد إنشاء “دولة إسرائيل”، واستخدم اسم هيليل كوك مرة أخرى، حيث انتخب عضوا في الكنيست عن حزب حيروت الذي كان يتزعمه مناحم بيجن.
وفي عام 1951، عاد بيرجسون ثانية إلى الولايات المتحدة ليصبح سمسارا في بورصة وول ستريت. ويقول روكواي إن كوك أبلغه بأن “أي أحمق يمكنه أن يجني أموالا طائلة في أميركا”، وظل فيها حتى عام 1970 حيث عاد من جديد إلى إسرائيل. وتزوج كوك مرتين وتوفي عام 2001.
التقى روكواي كوك عام 1996. وقال روكواي عن اللقاء “دعوته للحديث مع طلابي عما كان يقوم به في الولايات المتحدة. كان قد تقدم في السن، كان في الثمانينات من العمر حينها. استمتع طلابي للغاية بالمناقشة معه. في إسرائيل، لم يكن أحد يعرفه، ولم يكن معجبا بالقيادة هناك”.
وأضاف “كان يقول إن كل شيء هنا يتسم بالفوضى والارتباك. كان من الواضح بالنسبة إليه أن الأميركيين قد ينقذون المزيد من اليهود، وقال إنهم قد ينقذون آلافا مؤلفة من اليهود. لكنهم لم يفعلوا ذلك. لم يفعلوا شيئا”.خلال التحقيقات اكتشف روكواي أن عصابات الهاجاناة أيضا تلقت أموالا من رجال عصابات يهود في الولايات المتحدة.
وقال “أحد مبعوثي عصابات الهاجاناة كان ريؤفين دافني، مؤسس معسكر عين جيف على بحيرة طبريا، والذي وصل فجأة من يوغوسلافيا في منتصف عام 1944 برفقة الشاعرة هاناة زينيس”.
وعمل دافني لصالح عصابات الهاجاناة في الولايات المتحدة بدءا من عام 1946، ويقول روكواي إن دافني أيضا جذب انتباه مكتب الإف.بي.آي.
ووفقا لما قاله روكواي، فإن دافني أقنع رجل العصابات بنجامين باجسي سيجل بالتبرع بمبلغ كبير لصالح عصابات الهاجاناة.
وقال روكواي “قام ألين سمايلي مساعد سيجل بتقديم المال وكان يهوديا أيضا. سأل سيجل دافني عما يقوم به في الولايات المتحدة، فقال له دافني إنه يجمع المال لصالح الهاجاناة من أجل اليهود الذين يقاتلون العرب. استوقفه سيجل مستنكرا قوله إن اليهود يقاتلون”.
وأضاف روكواي “أكد دافني لسيجل الذي كان يجلس أمامه على الطاولة أن اليهود يقاتلون، ثم اقترب منه سيجل وسأله في دهشة عما إذا كانوا يقاتلون بحق، فأجاب دافني بالإيجاب. حينها قال سيجل إنه سيدعمه”.
وتابع “كان سيجل يحب القتل وشارك في كل شيء يتعلق بالقتل. لم يكن يعرف أن اليهود قادرون على المشاركة في قتال دام”.
التقى دافني كل أسبوع في عام 1946 مع سيجل الذي كان صديقا مقربا ورفيقا لمائير لانسكي وأبنر لونجي زويلمان وقادة عصابات يهود مشهورين بينهم تشارلز لاكي لوسيانو ومع قادة من المافيا الإيطالية. كانت اللقاءات تتم في مطعم في لوس أنجلس.
وقال روكواي “كان باجسي يظهر ومعه حقيبة مملوءة بنقود من فئة خمسة وعشرة دولارات. خلال ذلك العام تلقى دافني ما يقرب من خمسين ألف دولار قبل رحيله عن لوس أنجلس”.
وأضاف “في اليوم التالي لوصوله إلى سان فرانسيسكو، في يونيو عام 1947، ذهب دافني إلى قاعة المطعم بالفندق الذي كان يقيم فيه ليتناول الإفطار.
وعلى الصفحة الأولى لصحيفة أمامه كان عنوان رئيسي يقول إن باجسي سيجل قتل في منزله برفقة صديقته فرجينيا هيل. حينها كان دافني سعيدا لأنه حصل على المال نقدا وليس عن طريق شيك”.
Sorry Comments are closed