في سرية تامة، يواصل العشرات من أبرز رجال الساسة والاستخبارات وصناع القرار في العالم، جلساتهم في الاجتماع الرابع والستون لمنظمة «بيلدربيرغ»، التي توصف بحكومة العالم الخفية.
يشارك في المؤتمر قرابة 140 شخصية من سياسيين ورؤساء استخبارات ورؤساء شركات وبنوك عالمية كبرى، وهي الشخصيات الغربية الأكثر نفوذا وتأثيرا في العالم، حيث انطلق الخميس الماضي، ويستمر حتى غدا الأحد، في مدينة دريسدن بألمانيا.
ويعتبر المؤتمر، لقاء عالميا سنويا، يتم الإعلان عنه، إلا أن أجندته تبقى سرية.
ويمكن الكشف عن الموضوعات التي تبحث في هذه الاجتماعات، ولكن من دون الإشارة إلى آراء الحاضرين، كما لا تسجل محاضر بشأن ما يدور في هذه الاجتماعات، ولا تتخذ فيها القرارات، وعمليات تصويت ولا يصدر عنها أي بيان.
وتهتم مجموعة «بيلدربيرغ» بجميع القضايا العالمية، وسيناقش المجتمعون في هذه السنة، بحسب ما هو معلن، مشكلة المهاجرين، والانتخابات الأمريكية، وكلفة الطاقة ومواردها، وأمن الانترنت، وكذلك موضوعات متعلقة بالصين وروسيا والشرق الأوسط.
ولم يصدر عن المؤتمر خلال جلساته الماضية، أي بيانات عنه أو عن الموضوعات التي تتم مناقشتها، كما يمنع دخول الصحفيين، في ظل تكهنات حول أن هذا المؤتمر هو من يحدد السياسات العالمية وتوجهها.
وتحولت مدينة دريسدن الألمانية، هذه الأيام إلى مدينة مغلقة يحرسها المئات من رجال الشرطة، وتم إحاطة فندق «تاشينبيرغ باليه» الفاخر المجاور لمبنى الأوبرا بسياج حديدي، ومنع تنظيم أي تظاهرة، وكذلك التجمعات الكبيرة، كما مُنحت الشرطة صلاحية تفتيش أي شخص يكون موضع ريبة.
مشاركون
وبحسب الصور التي تم التقاطها خلسة، من أمام الفندق الذي يعقد فيه المؤتمر، ونشرها الناشط «ماجد التريباني» على صفحته بموقع «تويتر»، فقد وصل «هنري كاسنجر» السياسي الأمريكي البارز، و«جيمس جونسون» أحد أعضاء مجلس إدارة بنك «جولدمن ساكس»، و«بن فان بيوردن» الرئيس التنفيذي لشركة «شل» أكبر شركات النفط عالميا، و«ثومس ايندرس» الرئيس التنفيذي لشركة «ايرباص»، والملياردير السويدي «جاكوب والبيرق» أحد أعضاء مجلس إدارة شركة «كوكاكولا»، و«روبرت دادلي» رئيس مجلس إدارة «بي بي» النفطية، والملياردير «كلاس كلينفيلد» المستثمر الأكبر في شركات «مورغان ستانلي» و«الكوا ودفوس».
كما حضر إلى المؤتمر، رؤساء استخبارات دول أوروبية وأمريكية، بالإضافة إلى مؤثرين في الشأن العالم العالمي، ورؤساء شركات متعددة الجنسيات، وعابرة للقارات.
وأفادت صحف هولندية، أن ملك هولندا «وليم ألكسندر»، من ضمن المشاركين في هذا الاجتماع، فضلا عن مديرة صندوق النقد الدولي «كريستين لاغارد».
كما يشارك في هذا الاجتماع رئيس اتحاد الصناعات الألمانية «أولريخ غريللو»، وكذلك ثلاثة وزراء، هم وزير المالية «فولغانغ شويبله»، والدفاع «أورسولا فون دير لاين»، والداخلية «توماس دي ميزيير»، بحسب «روسيا اليوم».
وشهدت الجلسة الأولى التي عقدت أمس، في فندق «تاشينبيرغ باليه»، تظاهرات احتجاج، ولاسيما أن المنظمة تثير حساسية اليمين واليسار على حد سواء.
البداية
يشار إلى أنه في عام 1954 نشأت المنظمة أو «مؤتمر بيلدربيرغ» كما سمت نفسها لاحقا، وتزامن تأسيسها سرا (انكشف بعد عشرة أعوام تقريبا) مع تأسيس تجمعات مشابهة علنا، مثل منتدى «ميونيخ للشؤون الأمنية» لشؤون الأسلحة سابقا، ومنتدى «دافوس» أو المؤتمر الاقتصادي العالمي.
وكان القاسم المشترك هو عقد لقاءات دورية غير رسمية، لنخب مختارة من أصحاب النفوذ للتأثير على صناعة القرار عالميا، في حين أن تجمعات أخرى تحاط أنشطتها بالسرية، مثل «مجلس العلاقات الخارجية» في نيويورك، وما يسمى دار «تشاثام» (Chatham) في لندن.
ويعد عنصر السرية التي تحيط بمنظمة «بيلدربيرغ»، هو ما يعرضها لحملات نقد شديدة منها وصمها بحكومة العالم الخفية.
وكانت لقاءات المنظمة نصف سنوية، وأصبحت سنوية منذ عام 2009، وتقول المنظمة عن نفسها إن لقاءاتها مجرد «لقاءات سنوية لمدة ثلاثة أيام صبغته تعميق الحوار بين أوروبا وأميركا الشمالية»، ولهذا تقتصر الدعوة على شخصيات من دول حلف شمال الأطلسي، من أصحاب الإطلاع على معلومات من «العيار الثقيل» أو من «صناع القرار» السياسي والعسكري والاقتصادي والفكري والإعلامي.
وتعود مركزية «العلاقات الأطلسية» إلى النشأة الأولى للمنظمة عقب تأسيس الحلف مع بداية الحرب الباردة، بعد مخاض عسير، خاضته الرغبة الأوروبية في دعم العلاقات بين جانبي الأطلسي على خلفية خروج الدول الأوروبية للتو من سلسلة حروب متوالية منذ قرون، وتنعكس هذه الولادة الأوروبية في انعقاد المؤتمرات بنسبة «الثلث» في أميركا الشمالية، والثلثين في الدول الأوروبية الأطلسية، ومنها تركيا (عامي 1959 و1975).
صاحب الفكرة «جوزيف ريتينجر» البولندي، وأصبح لاحقا أول سكرتير للاتحاد الأوروبي، فحمل لقب «الأب الروحي للاتحاد»، وكان في شبابه قسيسا كاثوليكيا ومن الطبقة الأرستقراطية، وكوّن في المنفى- أثناء الحرب العالمية الثانية- شبكة علاقات مكثفة مع كبار المسؤولين، مثل «تشرشل» و«دالاس»، واتهم أثناء الحرب بأنه «جاسوس الفاتيكان» بعد اقتراحه على رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك «كليمنصو» تشكيل دولة ملكية أوروبية بإدارة اليسوعيين.
وأسس «ريتينجر» بعد الحرب «الحركة الأوروبية» فحصلت على دعم مالي أمريكي، عبر «المخابرات المركزية» و«اللجنة الأمريكية من أجل أوروبا موحدة»، واستقال عام 1952 من الحركة، ليؤسس «المنظمة» التي عرفت لاحقا باسم «بيلدربيرغ».
وقد بذل جهودا كبيرة لعب فيها رئيس المخابرات المركزية الأمريكية «بيديل سميث» دورا رئيسيا، حتى تمت الموافقة على المشاركة الأمريكية والكندية والتوافق على شخصيات ألمانية، فتبنى الأمير الهولندي «بيرنهارد» الدعوة إلى المؤتمر الأول في فندق «بيلدربيرغ» ببلدة أوستربيك الهولندية عام 1954.
غابت آنذاك مشاركة شخصيات من بعض دول الحلف، ولكن شهد عام 1989 قفزة رئيسية في المشاركة مع نهاية الحرب الباردة وتجدد التنبؤات أو المخاوف من انتهاء وجود الحلف نفسه بسبب «انتهاء مهمته» واقعيا.
ويمكن العودة بوصم المنظمة أنها حكومة العالم الخفية إلى ما أصبح معروفا عن مؤتمرها الأول، وشمل تحديد الموقف من «الاتحاد السوفياتي والشيوعية»، ومستقبل «المستعمرات الأوروبية»، وحركة «الاندماج الأوروبي»، ومناقشة تشكيل «مجموعة الدفاع الأوروبية» (منظمة عسكرية فقدت مفعولها لاحقا في ظل حلف شمال الأطلسي).
خصوصية
أما الأسلوب فيمكن استقراؤه عبر ما طرحه «ريتينجر» نفسه من «شروط المشاركة»، أن يكون المدعو من «الشخصيات ذات النفوذ، التي تحظى بالاحترام عموما، ولديها ما يكفي من المعرفة بالمجتمعات ومن الخبرة العملية، والقادرة على استخدام نفوذها في الدوائر الوطنية والعالمية لتحقيق أهداف المنظمة»، بالإضافة إلى «مستوى عال من الصراحة وعدم تمثيل اقتناعات وطنية أو أحكام مسبقة، والمشاركة في تبني القيم الأخلاقية والثقافية الغربية».
ومن المؤشرات الأقوى دلالة على هذا الصعيد، ما ذكره العضو السابق في اللجنة التوجيهية، «جورج ماك جي»، لمؤلف كتاب عن سيرة حياة الأمير «بيرنهارد»، حين قال: «بإمكاني القول إن معاهدة روما التي أدت إلى تأسيس الرابطة الأوروبية المشتركة، ولدت في هذه المؤتمرات»، وهي الرابطة التي أصبحت معروفة في هذه الأثناء باسم الاتحاد الأوروبي.
ومن المؤشرات أيضا أن المشاركين في المؤتمر يتلقون في ختامه «تحليلا لمحتواه»، مع التأكيد أن عليهم العمل لتحقيق ما فيه من إستراتيجيات سياسية واقتصادية وغيرها، في مواطنهم، وهو أمر ليس بسيطا بمعيار «وزن» المشاركين وقدراتهم.
* المصدر: الخليج الجديد
عذراً التعليقات مغلقة