في عالم السجن

دارا عبد الله25 يوليو 2018آخر تحديث :
دارا عبد الله

في الغرفة التي تسمى “المهجع الخارجي”، في فرع الخطيب التابع لأمن الدولة في منطقة القصاع بدمشق، تم حشر أكثر من 300 شخص في غرفة لا تتسع فعليا لأكثر من 50 شخصا. ولمنع تشكيل طاقة سياسية أو شبكات تضامن معنوية، كان رجال الاستخبارات يقومون بدمج السجناء السياسيين مع السجناء الجنائيين، وذلك منعا من تشكيل قضية عامة، ولسهولة تحويل السجناء الجنائيين إلى مخبرين، يرتقون في عالم السجن من خلال الوشاية على القادمين الجدد.

أتذكر سجينا جنائيا من ركن الدين، عمره 33 سنة، قضى منهم 13 سنة في السجن، ليس لأسباب سياسية، بل لجرائم قتل وسرقة واغتصاب. هذا الشاب كان معارضا للثورة السورية، لأسبابه الخاصة، فعلى حد تعبيره “كان السجن جنة قبل ما يجو هالـ…”، و”كان الأكل كتير”، و”كنت مقضيها هون آكل شارب نايم”.

هذا العدد الهائل من المساجين داخل هذا المكان المغلق، كان بحاجة إلى شكل من أشكال التنظيم الذاتي، والتدبير الداخلي، وإلا ستندلع حرب أهلية دامية داخل السجن، يأكل فيها الجميع الجميع. خصوصا في ظل وجود مرحاض واحد فقط في الزاوية، وصنبور ماء يتيم، تنقطع فيه المياه كثيرا.

كما أن السجن دوما بحاجة إلى “دستور داخلي” ناظم لشؤون الناس، من حيث تقسيم المكان. المكان أغلى عملة في السجن، ذهب عالم السجن، البلاطة هي العقار السحري. حدود عالمك هي حدود البلاطة. وبعد فترة من الانغماس في العالم الداخلي للسجن وتلاشي صورة العالم الخارجي تدريجيا، يصبح حلم الاستقرار بامتلاك بلاطة مستقلة، أهم من إسقاط نظام بشار الأسد.

كان الناظم لشؤون حياتنا في السجن، شاب في نهاية العشرينيات من دوما. محافظ حليق الشوارب ويمتلك ذقنا خفيفة، وكان من بيت الساعور. كان يعمل في التمديدات الصحية، وله محل في مدينة دوما. وضع هذا الشاب بالتعاون مع زملائه، الدستور الداخلي لنا. كان يسعى إلى تحقيق شكل من أشكال العدالة الناظمة.

مثلا، وضع قانونا بأن الأطفال والشيوخ يحصلون على بلاطة فورا بسبب ضعف بنيتهم الجسدية. كما أن المرضى المصابين بالأمراض التنفسية لهم الحق بالبقاء بالقرب من الباب حيث قطرات الهواء الوحيدة التي تهب إلى الغرفة. شكل أيضا، فرقة تقوم بتوزيع الطعام، وكان يوزع المساجين في ثلاثة صفوف في فترة الطعام، بحيث يحصل كل فرد بشكل عادل على رغيف خبز وبعض المربى والزيتون والبطاطا المسلوقة للبقاء. وكان يترك بعض الطعام دوما للقادمين الجدد.

لم يتحدث هذا الشاب بكلمة سياسية واحدة، بل كان يشدد على الصبر والتحمل وضرورة التعاون حتى نتجاوز هذا الظرف. أتذكر بأنه تدخل مرة بعد انقطاع المياه لمدة عشر ساعات داخل السجن، وأورد مثالا تاريخيا مشابها من السيرة النبوية عن شح المياه في فترة هجرة محمد من مكة إلى المدينة، وكيف أن القافلة النبوية تحملت العطش كثيرا. حققت هذه القصة، فعلا، الراحة والسكينة في قلوب عشرات.

بعد فترة، دخل أحد أصدقائه إلى السجن، ويبدو بأنه قد تم اعتقاله حديثا، سلم الشاب من بيت الساعور على صديقه القادم، ورحب به. ولكن بعد عشرة دقائق، سمعنا صوت واضع الدستور، وهو يبكي ويضع يده على عينه، كمصاب بصدمة نفسية هائلة. كان يبكي وكأن صوته يحاول أن يخرج أحشائه من جوفه، ويضرب رأسه بالحائط فيتطاير الغبار من الحائط، ويدب الصوت الكتوم في كل أرجاء المهجع ويقول: “بس بدي شوفو قبل ما روح”. عيون حمراء ملتهبة تنزف ولا يعرف أحد حتى الآن السبب. لاحقا، قال لنا صديقه بأن زوجته كانت حامل، وهي أنجبت ولدا، وبأنه قد أخبره بهذا الأمر للتو.

لم أسمع عن الشاب شيئا بعد ذلك، فقط أملي أن يكون قد رأى ابنه.

المصدر الحرة
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل