انفضّت قمة هلسنكي التي جمعت بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، من دون أن يرشح عنها مؤشرات على توافقات أو تفاهمات مهمة بشأن ملفات دولية نوقشت خلالها، الأمر الذي خفّض من سقف التوقعات التي سادت قبلها، وقلل كثيراً من الأهمية الكبرى التي كانت معقودة عليها، فالكلام الصادر عن ترامب وبوتين، في مؤتمرهما الصحافي المشترك، يشير بوضوح إلى أن القمة لم تخرج بأي اتفاقات رسمية، وأنها انتهت إلى مجرد اجتماع صبّ في مصلحة روسيا والنظام البوتيني الحاكم فيها.
وقد سبقت القمة حملات إعلامية كبيرة، وسالت تحليلات وتوقعات، جعلت موعدها المنتظر مرتقباً لكل المتابعين، بوصفه حدثاً مهما سيؤثر في عديد من قضايا العالم وشعوبه ومناطقه، إذ جرى تشبيهها بمؤتمر يالطا الذي عُقد في الرابع من فبراير/ شباط 1945، وجمع في ذلك الوقت، ما بين رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرتشل ورئيس الاتحاد السوفييتي المندثر جوزف ستالين، وعُرفوا بالثلاثة الكبار. واعتبر مؤتمرهم من أهم المؤتمرات في تاريخ السياسة الدولية المعاصرة، كونه ضم ثلاثة من كبار زعماء العالم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وأفضت قمتهم إلى إرساء منظومة عالمية لصون السلم العالمي، من خلال تشكيل الأمم المتحدة، وإعادة إرساء النظام في القارة الأوروبية، وتقديم المساعدة إلى الدول المنهزمة، كي تشكل حكومات ديمقراطية، كما أسفرت عن اتفاق الحلفاء على تقسيم ألمانيا، وإنشاء لجان خاصة لحصر الخسائر والأضرار الناجمة عن الحرب وتحديدها.
وأطلق محللون وسياسيون عديدون العنان لمخيلاتهم، وراحوا يعتبرون قمة هلسنكي تحاكي قمة هاري ترومان مع ستالين أيضاً في مدينة بوتسدام الألمانية القريبة من برلين، ثم لقاء جون كينيدي المتوتر بنيكيتا خروتشوف في جنيف، وقمة رونالد ريغان مع ميخائيل غورباتشيف في ريكيافيك. وبالنظر إلى اختيار هلسنكي، عاصمة فنلندا، مكاناً للقاء ترامب وبوتين، استعادوا التذكير باتفاقات هلسنكي عام 1975 بين الولايات المتحدة وقوى أوروبية كبرى، من جهة، والاتحاد السوفييتي السابق من جهة أخرى. واعتبرت تلك الاتفاقات مقدّمةً فعليةً لانتهاء الحرب الباردة، وساهمت فيما بعد في قيام الثورات الملونة عام 1989 فيما كانت تعرف بدول المنظومة الاشتراكية، في أوروبا الشرقية. وقد أفضت تلك القمم والاجتماعات، في أغلبها، إلى نتائج كبرى في تاريخ العالم الحديث، حيث رسمت وهندست خرائط سياسية لاحقة عليها، وصحبتها تسوياتٌ قاسيةٌ ومؤثرةٌ بين الدول والأطراف التي اجتمعت فيها.
غير أن المقارنة بين القمم التاريخية السابقة وقمة ترامب وبوتين في هلسنكي كانت فاشلة وخائبة هذه المرة، إذ ليس هنالك أي مؤشر على امتلاكها أهميةً ترتقي إلى مصاف القمم التاريخية السابقة، بل ضخّمت الحملة الإعلامية التي رافقتها من أهميتها، ورفعت سقف التوقعات المرجوة منها، وأعطتها مكانة لا تستحقها.
ولعل أهم ما رشح عن القمة توافق الرئيسين فيما يخص القضية السورية، وجاء من باب التأكيد على أولوية حماية أمن إسرائيل، بالاتفاق على إعادة تفعيل اتفاقية وقف إطلاق النار في عام 1974 في الجولان المحتل، وهو ما يمكن أن يُفهم منه اتفاق على إبعاد القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها عن حدود الأراضي السورية التي تحتلها إسرائيل. ولم يتم ذكر مآسي السوريين وهول ما جرى لهم، كما لم يذكر ترامب كلمةً عن جرائم النظام السوري، ولا عن مصير رئيسه المجرم، وينسحب الأمر نفسه على باقي الملفات الخلافية ما بين الروس والأميركان.
وقد جرى قبل قمة هلسنكي تسويق أحاديث لمسؤولين أميركيين وروس تفيد بأن القمة ستتناول قضايا دولية أساسية، منها قضية أوكرانيا، ومسألة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وحلف شمال الأطلسي، وملف الأسلحة الإستراتيجية، والقضية السورية، وملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والملف النووي الإيراني، والحرب السيبرانية، وخصوصا بما يتصل بالتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية عام 2016، والوضع في أفغانستان والعقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا، وموضوع النفط والطاقة وسوى ذلك.
ولا شك أن بعض هذه الملفات والمواضيع قد جرت مناقشته في قمة ترامب وبوتين، ولم يتم الإعلان عن خيوط التفاهمات حولها. ولكن يبدو أن ملفات ومواضيع أخرى لم يجر التطرق إليها خلال القمة، وخصوصا حيثيات (وخلفيّات) التدخّل الروسي في قضيّة انتخاب دونالد ترامب نفسه، بل إن ترامب اعتبر أمام بوتين أنه لا يرى ما يدعوه إلى تصديق أجهزة
مخابراته، بشأن مسألة ما إذا كانت روسيا تدخلت لمساعدته في الفوز بانتخابات عام 2016، وهذا ما جعل بوتين يبدي رضاه التام في المؤتمر الصحافي عما جرى في القمة، الأمر الذي استدعى انتقاداتٍ كبيرةً لترامب وأدائه خلال القمة، وأثار عاصفة سياسية في الولايات المتحدة، وصلت إلى درجة أن مدير المخابرات الأميركية السابق، جون برينان، دعا إلى المطالبة بعزل ترامب من منصبه، واعتبر أن أداء الرئيس في المؤتمر الصحافي يتجاوز حدّ “الجريمة الكبرى والإثم” الذي يرتقي إلى الخيانة.
ويبدو أن ما ظهر من قمة هلسنكي، وما بقي خفياً وسراً بين الرجلين، زادا من حجم الشكوك لدى أقطاب الإدارة الأميركية، جمهوريين وديمقراطيين، وعمّق الانقسام بينهم، بل وأدخل الجمهوريين في حال من الحرج، خصوصا أن ترامب استبق القمة بتصريحات مثيرة، وجه خلالها انتقادات واسعة ولاذعة لحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وصلت إلى حدّ اعتباره “ألمانيا تحت سيطرة روسيا”، وأن روسيا والاتحاد الأوروبي والصين أعداء الولايات المتحدة، فيما اعتبر بوتين شخصاً جيداً، منافساً له وليس عدواً، وربما يصبح صديقاً له.
عذراً التعليقات مغلقة