يطرح انهيار الجغرافيا السياسية المشرقية في سياق ثورات الربيع العربي، وفي سورية خصوصاً، مصير الدولة القطرية التي نشأت على أنقاض السلطنة العثمانية، وساهمت في رسم حدودها الجغرافية والسياسية مصالح الدول الغربية. ومن الطبيعي أن يثير هذا الانهيار أسئلة معقدة على الباحثين، ويدفع إلى مراجعاتٍ واسعةٍ في الفكر والأيديولوجية والسياسة لدى العرب والسوريين. وفي مناسبة مرور مائة عام على اتفاقيات سايكس بيكو الشهيرة، يكتشف كثيرون فجأةً أنه لم يكن في المشرق شعوب، وإنما طوائف وعشائر وأقليات وأكثريات فحسب، وأن العروبة لا تتعدّى أن تكون مزحة ثقيلة، وأن الإسلام لم يكن ثقافةً وحضارةً شكلت جزءاً من تراث المسلم والمسيحي والمؤمن وغير المؤمن، لكنه كان مذاهب شتى وتحزباتٍ مغلقة وعصبياتٍ وأحقاداً ونزاعات ومظلوميات، وأن الخطأ الذي ارتكبه وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا عام 1916 لا يكمن، كما اعتقد القوميون العرب، في تقسيم “المملكة العربية” التي اتفقت دولتاهما مع قادة “الثورة العربية الكبرى” الحجازية الدمشقية على إنشائها، على أنقاض الإمبرطورية العثمانية، في أقاليم المشرق العربي الآسيوية، وإنما، بالعكس، في تشكيل دول قطرية “مصطنعة” على أنقاضها، في الشام والعراق والجزيرة العربية، تجمع بين شعوب ومذاهب وطوائف وإثنيات متنافرة، لا يوجد بين جماعاتها أي ألفةٍ أو تضامن، وليس لإنشائها سبب آخر سوى خدمة مصالح الدول الاستعمارية التي رسمت وحدها حدودها.
وفي هذا السياق، تظهر بوادر مراجعة نظرية غير مسبوقة، تدين الدولة السايكس بيكية، بالزوال، وتدعو إلى إقامة دول متعددة، أو ضمن فيدراليات تضمن الهوية الخاصة لكل مذهبٍ وقوميةٍ واستقلالهما. ويبدو التفاهم الأميركي الروسي الذي أخذ على عاتقه إعادة تنظيم شؤون المشرق العربي، وتحديد مستقبله، من وراء ذريعة الحرب ضد الإرهاب، وعبر تقاسم مهامها، إنذاراً أو نذيراً برسم تاريخ سياسي جديد للمنطقة. ويأمل فاعلون جدد كثيرون أن يدخلوا التاريخ من جديد على إثر إعلان الحداد على الاتفاقية البريطانية الفرنسية لعام 1916، وولادة اتفاقية بديلة، كيري-لافروف، تعيد رسم الخرائط وتحديد مناطق النفوذ.
يشترك في هذه المراجعة “الهدّامة” لتاريخ الدولة القطرية الحديثة في المشرق العربي أقطاب الفكر السياسي المتناقضين، ويشارك في ترويجها باحثون أكاديميون، كانوا يدافعون دائماً في السابق عن شرعية وجود هذه الدولة، ويبينون الأسباب المنطقية القائمة وراء تكوينها، في مواجهة أصحاب الخطابات العربية القومية القديمة التي كانت تنكر شرعية وجودها، والخطابات الإسلاموية التي رفضت دائماً الاعتراف بحدودها ومضمونها، وحاربت القيم العميقة التي تحرّكها والتي تجعل منها في نظرهم غريبةً عن ثقافة المسلمين وتقاليدهم، وحاملةً، بالتالي، هوية مختلفة تدفع المجتمعات الاسلامية إلى الانخلاع عن هويتها، واستبدالها بهوية “علمانية”، تلغي تاريخها وتخون اعتقاداتها. وحتى قبل أن تنهار وتتفكّك فعلياً، كما يتوقع أو يحلم أعداؤها الكثيرون اليوم، يفقد وجود هذه الدولة السايكس بيكية أي معنىً عند تيارات الرأي العام، ويدفع كثيرين، تحت وقع المجازر المستمرة في سورية والعراق خصوصاً، إلى التسليم بنهاية صلاحيتها وضرورة التفكير ببديل عنها.
عن دولة سايكس بيكو والطامعين بوراثة أملاكها
أربعة انماط من “الدول” تهيئ نفسها لوراثة الدولة القطرية في المشرق العربي. الأول هو نمط الدولة الأقوامية -الإثنية التي تستمد شرعيتها ومبرّر وجودها، كسلطة مركزية سيدة ومستقلة، من الحق الطبيعي في الحفاظ على الهوية الخاصة بجماعةٍ متميزة لغوياً وثقافياً، وصيانتها، والتعبير عنها. وهي تختلف تماماً عن الدولة الأمة، كما تشير إليها الأدبيات الكلاسيكية الغربية، والتي تتجاوز مسألة الحفاظ على الهويات الإتنية والطائفية، لتأسيس اجتماعٍ سياسيٍّ غايته تعزيز فرص الحرية الشخصية والعدالة والتقدم وحكم القانون، أي المواطنة المتساوية. والنمط الثاني هو الدولة الطائفية أو المذهبية، فبعكس ما توحي به المظاهر السطحية، ليس الاختلاف باللغة والثقافة شرطاً لبروز شعور متميز بالهوية الخاصة، فقد تشعر طائفةٌ دينيةٌ أقليةٌ بأنها تشكل شعباً مختلفاً عن بقية الناطقين باللغة نفسها، أو الحاملين ثقافتها. ينبع هذا الشعور من أن تجربتها التاريخية الخاصة، ومعاناتها الطويلة كأقلية، يمكن أن تنتج لديها بالفعل خبرةً ثقافيةً مختلفةً، ومشاعر جماعية خاصة، تميزها في سلوكها وردود أفعالها عن الأكثرية الثقافية واللغوية التي تندرج فيها. ويكفي أن يوجد الفاعل السياسي والعسكري القادر على استثمار هذه الخبرة الثقافية التاريخية المختلفة لأهدافه الخاصة، حتى يتحوّل هذا الشعور بالتميز إلى مطالبةٍ بمعاملةٍ خاصة، أو حتى بالانفصال عن الجماعة التي تشترك معها في اللغة والثقافة. وما ينتشر اليوم من أدبياتٍ حول المظلوميات التاريخية يدخل في هذا السياق. فهو يعمل من خلال تغذيه مشاعر الخوف أو الكراهية أو الاتهام للآخر المجانس إلى التعويض عن غياب الثقافة، أو اللغة المختلفة التي تبرّر، أو يمكن أن تبرّر نزعة الانفصال والانشقاق. فالدولة الطائفية شكل آخر من الدولة الإتنية، وكل منهما يجد مبرّر وجوده في حماية هوية الجماعة المتميزة باللغة أو المذهب أو المعاناة التاريخية.
أما النمط الثالث من الدول المرشحة في الوقت الراهن لوراثة دولة سايكس بيكو فهي دولة أمراء الحرب، القائمة على سند ديني أو استيلائي، بمعنى فرض الأمر الواقع، أو كليهما. وتكاد إمارات الاستيلاء الصغيرة التي أنتجتها الحرب، والتي يحاول كل أمير فيها أن يرسم حدود دولته من دون أدنى حاجةٍ إلى السؤال عن الهدف والمبرر والشرعية، أو حتى لتعيين حدودٍ جغرافيةٍ أو سياسية، تملأ اليوم الجزء الأكبر من مساحة الدولة السورية.
ومثل أشباهها في الدولة الطائفية والإثنية، ليس للشعب مكان في بناء هذه الدول أو إقامتها. فهي مفروضة من دعاتها بالقوة أو بالتفاهم مع دول قوية حامية، على الأهالي، من دون أن يسأل أي فاعل سياسي وعسكري من المشاركين فيها، عن حقيقة الشعب الخاضع لسلطته، وفي ما إذا كان ينتمي بالفعل لقوميته أو طائفته، ومن باب أولى أن لا يسأله عن رأيه، ولا يعنى بإرادته. فالإمارات المقامة باسم العقيدة أو الشوكة، كما كان يحصل في التاريخ السابق للدولة الوطنية كله، مرتبطة بالتعريف بأميرها، وبالقوة التي يستطيع أن يجرّدها لتحقيق هدفه، تماماً كما ترتبط الدولة الطائفية والإتنية بزعامة الطائفة والإتنية ووجاهاتها. وهي مثلها لا تعنى برأي الأهالي، ولا يهمها أمر قرابتهم الثقافية أو المذهبية، وتستطيع إذا احتاج الأمر أن تغيّرهم أو تطرد من تشاء منهم وتفرض عليهم دين الأمير وخياراته، من دون أن تشعر بأي تجاوز لعرف أو قانون.
أما الوريث الرابع الذي يطرح نفسه بديلاً لهذه الدولة، فهو دولة كيري-لافروف التي يطمح الروس والأميركيون إلى بنائها على منطق المساومات والتسويات التي تنسجم مع التفاهمات المحتملة حول توزيع القوى والمصالح والنفوذ لكليهما في المنطقة المشرقية، وعلى حساب القوى الدولية الأخرى، أو بالتقاسم معها. وهذا ما يريد أن يكرّسه الاتفاق الروسي الأميركي الذي تحوّل إلى قرار في مجلس الأمن رقم 2254. وهي دولةٌ لم تحسم خريطتها بعد، لا الجغرافية ولا السياسية، ولا تزال مشروعاً بين المشاريع الأخرى المتنافسة على ملء الفراغ السياسي والجيوستراتيجي القائم. لكن، الواضح من التصريحات والممارسات المشتركة الأميركية الروسية أن العمل عليها يمكن أن يتم، مع استثناءاتٍ محدودة، من خلال إعادة هيكلة الدولة القطرية القديمة، وليس بإلغائها. لكن، مع العمل على إضعافها من الداخل باسم الفيدرالية، أو المحاصصة الطائفية والقومية، وفي جميع الحالات مع محاولة تفريغ السلطة المركزية والسيادة الوطنية من مضمونها، وربما مع تغييراتٍ ديمغرافيةٍ تكرس نتائج حروب التطهير العرقية والطائفية. وستكون دولة كيري-لافروف، في هذه الحالة، الحصيلة الأخيرة، أو القاسم المشترك الأعظم لدمج مفاهيم الدولة الثلاث المذكورة سابقاً، الإتنية والطائفية والاستيلائية.
بين قومية العرق وقومية الأرض: العصبية والوطنية
تُراهن هذه المشاريع على الضياع الايديولوجي والسياسي الذي أحدثته أزمة الدولة القطرية، وانهيار قدراتها على إقناع قطاعاتٍ من الرأي العام المشوش، والمشتت بخطها ورؤيتها. ويجمع بين أصحاب هذه المشاريع وهم مشترك، هو القدرة البناءة للنقاء المذهبي، أو الاتني، في تأسيس جماعةٍ سياسيةٍ مستقرةٍ ومنسجمةٍ ومسالمةٍ تضمن التخفيف من وتيرة الحرب، إن لم تساعد على وضعٍ حد لها. وهو وهم سنكتشف، بعد سنوات، كما يحصل أمامنا اليوم في العراق، أنه لن يقدّم اي حل لأزمة الاجتماع السياسي المتفجرة. وبدل أن يساهم في التهدئة، وفي فتح أفقٍ حقيقي لتوحيد إرادة الشعوب، وتطمين الجماعات، وتعبيد طريق إعادة بناء نسيج المجتمعات المتحللة والمتفككة، وتنظيم شؤونها وإطلاق قدراتها الانتاجية والابداعية، سوف يسعّر التناقضات، ويحرّض على استمرار النزاع بين الجماعات، وعلى تعميم أشكال العنف الهمجي التي رأينا أمثلةً شنيعةً لها في السنوات الخمس الماضية، في أكثر من بقعة ومكان من الأرض المشرقية، بمقدار ما يُضعف فرص التنمية البشرية، وقدرة الدولة على ضمان الحريات والعدالة وحكم القانون لجميع الأفراد بالتساوي، حتى داخل الطائفة أو الاتنية نفسها. وهذا يعني أنه لن تقوم دولة جديدة، بالمعنى البسيط للكلمة، أي كسلطة مؤسسية، تقوم بتطبيق العدالة والقانون وتحقيق الأمن والسلام، ولن تستقر على أوهام أمراء الحرب والتيارات المتطرفة والمنفلتة من عقالها، قوميةً كانت أو دينيةً أو مذهبيةً أو انتهازيةً تقوم على خدمة الاستراتيجية الاستعمارية الأجنبية.
يكتشف المتامل في تاريخ الدول ومصيرها أنها كلها صناعية، أي ناتجة من جمع شتات من الشعوب والقوميات والمذاهب والأديان. والذي يوحّدها ليس التراث الماضي، ولكن مشروع المستقبل. لذلك، كلما كانت صناعية كانت أكثر قدرة على التعامل مع حاجات الشعوب الجديدة وتلبية تطلعاتها الحقيقية، من دون أثقال الماضي ومستحقاته. وبالعكس، أفشل الدول هي التي لم تقطع مع الماضي، واستمرت على الاعتقاد بأن شرعيتها تستمد من تمثيلها جماعةً دينيةً، أو قومية عريقة، وبالتالي، من التاريخ والثقافة والتقاليد. وهذا ما تريد أن تعيد إنتاجه الأنماط المطروحة اليوم كدول هوية، دينية أو ثقافية، بديلاً للدولة المواطنية. وفي اعتقادي أن فشل مشروع القومية العربية الذي تمتع، في الستينات من القرن الماضي، بشعبيةٍ لم يحصل عليها أي مشروع آخر في المنطقة منذ قرون طويلة، هو أنه نظر إلى الدولة الأمة دولةً قومية، أي تجسيداً لهويةٍ عربية وقومية خاصة. وهذا ما حرمه من أن يدرك وظائف الدولة الحديثة التي لا علاقة لها بالوفاء لأي هوية، لكنها تهدف إلى تحرير الأفراد وتعزيز مشاركة الشعوب والمجتمعات في المدنية، أي إلى مساعدتها على الاندراج في حضارة عصرها، وإعادة إنتاج وتعميق قيمها في منطقتها. وهذا هو الأصل في إعادة تأسيس الدولة الأمة لهويةٍ جديدة، هي الهوية السياسية، النابعة من الرابطة المواطنية، والمستندة إلى قيمها، بالتالي، إنشاء حاضنة التعايش بين الهويات الأهلية أو ما قبل السياسية التي ورثها المجتمع، أو الجماعات المختلفة من الماضي.
فالقومية التي تتطابق مع مشاعر القرابة الإتنية والتقاليد والماضي، وتقدّس آثارهما، تخلق عصبية لا علاقة لها بالوطنية التي تعني التعلق بالدولة الأمة الحديثة. وربما غذّى مفهومها نزعاتٍ محافظةً تشجع على قطع صلات المجتمع بالحضارة، وتمنعه من الارتقاء في صيغ تنظيمه وتفكيره، وتدبير أموره وإدارته، وإنتاجه، إلى مستويات المشاركة في المدنية المعاصرة، بدل أن يشجع على التفاعل مع الحضارة. والحال أن الدولة الأمة لا تنشأ من الولاء للقوم والانتماء لثقافته، وإنما تتغذّى، بالعكس، من التعلق بالأرض والانتماء للإقليم، والتماهي الجماعي لكل الأفراد، بصرف النظر عن أصولهم وهوياتهم الأهلية، مع دولة الإقليم، أو ما أطلقنا عليه اسم الدولة القطرية التي تولد رابطةَ قرابةٍ وطنيةٍ، تنشأ من المشاركة في العيش وإدارة شؤون الدولة القائمة على مساحةٍ معينة من الأرض، وتعظيم فرص نموها وازدهارها بين أفرادٍ ينتمون لجماعاتٍ وثقافاتٍ مختلفة.
تنشأ الوطنية من الوفاء للأرض-الدولة، وتتقوّى من مشروع بنائها كدولة مواطنيها، وكوسيلة لتعزيز فرص تقدمهم، وازدهار حياتهم وسعادتهم معا، لا كوسيلة لضمان القرابات والعادات والتقاليد والوفاء لقيم التراث وتعظيمه. ويكفي، لإدراك ذلك، أن نقارن بين الأمة العربية التي فشلت في بناء دولة حديثة، تقطع مع التصوّرات الاهلية والثقافوية، على الرغم من تمتعها بتراث مشترك، لا مثيل له، يجمع الثقافة إلى الدين الواحد، وربما بسبب فشلها في هذا القطع، وتمحورها حول الأصل والهوية والثقافة والقوم، والأمة الأميركية التي ولدت في إطار دولةٍ انتزعت من العدم، وساهم في إنشائها مهاجرون ومغامرون وأفّاقون وقطاع طرقٍ لا توحدهم ثقافة، ولا لغة ولا دين، أمة شارك الجميع، على اختلافهم، في اصطناعها عبر الحروب والنزاعات والتسويات، بمقدار ما نجحوا في اكتشاف السر الذي يوحدهم، على الرغم من اختلافهم، ويسمح لهم بالتعايش على الرغم من نزاعاتهم. وهو ليس شيء آخر سوى السياسة.
* نقلاً عن “العربي الجديد”
عذراً التعليقات مغلقة