* عمر قدور
تناقلت وكالات الأنباء خبر إدخال أول شحنة من المساعدات الأممية لمدينة داريا، الأربعاء الماضي. العنوان سيكون مُضللاً تماماً من دون التفاصيل. الناطق باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر قال باقتضاب إنها تخلو من الأغذية وتقتصر على مستلزمات النظافة. ذلك يعني أيضاً خلو المساعدات من المستلزمات الطبية والدوائية، إلا أن ناشطين من المدينة أكدوا احتواءها واقيات حمل ذكرية وحبوباً لمنع الحمل. للتذكير، قبل ثلاثة أسابيع تراجعت قافلة مساعدات أممية عن دخول داريا بعد تفتيشها من قبل آخر حاجز لقوات النظام، إثر قيام عناصره بإزالة الأدوية وأغذية الأطفال منها. هذه المرة، عادت القافلة تماماً كما يشتهي النظام، لكن لتتناقل وكالات الأنباء ذلك العنوان المخادع، وينام العالم مطمئناً إلى أن جوعى داريا سيتجنبون إنجاب جوعى جدد.
قبل يوم من وصــول حبوب منع الحمل، كانت الطائرات الروسية قصفت المستشفى الوطني في إدلب، وفي مجمل نشاطها ارتكبت مجزرة مروعة، في خرق جديد لقرار مجلس الأمن الذي نص تحديداً على منع استهداف المنشآت الطبية. الإدارة الأميركية علقت على الحدث بأنها لم تســتطع التأكد من هوية الطائرات المجهولة، ما يعني تركه بلا إدانة رمزية سواء كانت موجهة إلى الروس أو النظام. هذا لا يختلف عن نفي الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية قبل أسبوعين وجود ارتباط بين وحدات الحماية الكردية وحزب العمال الكردستاني، على رغم عدم نفي الوحدات تلك الصلة.
العبرة هي في انتقال النهج الدولي من عدم الاكتراث أو الاستهتار بالمقتلة السورية إلى الوقاحة العلنية التي تصدم العقل قبل الوجدان… الوقاحة التي سبق استخدامها في قضايا عديدة والتي تشير دائماً إلى النية الدولية في فرض حل جائر على الطرف المتضرر. المفعول الصادم للوقاحة متعمد، بمعنى أنه في صلب هدفها، فهي في كل الحالات المشابهة لا تهدف إلى تكريس إرادة الأقوى فحسب، وإنما تهدف إلى إذلالٍ أشدّ للضحية، والقول إن الأقوى وحده مَنْ يقرر حتى منحها امتيازات الضحية أخلاقياً، أو حجبها عنها.
لم يأتِ إدخال حبوب منع الحمل إلى داريا إلا على شاكلة الحل السياسي المنوي فرضه، أي بتلبية احتياجات أو مطالب غير مطروحة أصلاً ولا تكتسب صفة الضرورة. حبوب منع الحمل بدل الغذاء، أمر يشبه تماماً منح المعارضة صلاحيات واسعة في الشأن الاقتصادي في التسوية المطروحة، على رغم أن الثورة انطلقت أساساً على الضد من النظام العسكري المخابراتي الذي يُراد إبقاؤه بإشراف رأسه. النظام ذاته كان سبّاقاً في هذا التكتيك، فمع انطلاق التظـــاهرات المـــطالبة بالحرية اتخذ قراراً بتلبية ما لم يطلبه أحد آنذاك، وهو قرار إعادة المنــقّبات إلى العـــمل في ســلك التعليم وإطلاق قناة تلفزيونية دينية.
دائماً كانت الوقاحة الدولية تتناسب طرداً مع الإجحاف، بل يمكن من خلالها استشفاف التنازل أو الاستسلام المطلوب، وهذا ما ينبغي قوله علناً من قبل السوريين أنفسهم، وأول ما ينبغي قوله من قبل هيئات المعارضة. على الجميع التحلي بشجاعة الاعتراف بمقدار الإهانة والإذلال الموجّه إلى عموم السوريين، المعارضة على نحو خاص ينبغي أن تكون صريحة في تلقي الإهانة نيابة عنهم، بحكم موقعها وتواصلها مع القوى الدولية، وأيضاً بحكم فشلها الذريع، سواء النابع من أدائها أو من ظروف تفوق طاقتها.
من المعيب والمخجل استمرار ذلك النهج المعتمد على تبديل هياكل المعارضة كلما استدعت الحاجة تراجعاً دولياً جديداً إزاء النظام، فائتلاف قوى المعارضة أنشئ بطلب دولي تمهيداً لجنيف 2، والهيئة العليا للتفاوض أنشئت تمهيداً لجنيف 3، ومــشروع توسيع الهيئة بضم أشخاص وهيئات مقرّبة من النظام، يُعمل عليه تمهيداً لجنيف 4. كل جولة فاشلة من التفاوض، يتهرب فيها النظام من مناقشة القضايا الأساسية، تتبعها محاولة تصنيع معارضة أكثر استعداداً للتنازل. وعندما حانت لحظة الجد الأميركية ترافقت المحاولات مع تصعيد كبير في المجازر، وصمت تام حيالها.
الأمانة للثورة تقتضي ممن يدعي تمثيلها مصارحة جمهورها بما كان يدور، ولا يزال، في الغرف المغلقة، بما في ذلك مــجمل الضـــغوط التي مارستها قوى دولية وإقليـــمية. الأمانة للثورة تقتضي اليوم استـــقالة جميع أولئك الذين أخفقوا في نشـــاطهم الســـياسي، وفي المقام الأول الذين عـــملوا برعاية دولية وإقليمية، ثم سرعان ما انكشف استغلالهم ورميهم جانباً عندما انتفت الحاجة إليهم.
لم تكن هناك خديعة ليتلطى خلفها أحد، فالسياق الأميركي كان واضحاً منذ صفقة الكيماوي وصولاً إلى صفقة النووي مع إيران، والتحذيرات من عزم إدارة باراك أوباما على تصفية الملف السوري قبل رحيله كانت موجودة أيضاً. في هذه الحالة، تعويل المعارضة على قدر طارئ يغيّر مسار الأحداث لا معنى له في السياسة، وما تُسأل عنه هو جهدها السياسي وجهد أصدقائها لتغيير ذلك المسار، أو جهدها وجهد أصدقائها لمجابهته. ما يحدث على الأرض يدل على اســتسلام قدري للمـــشيئة الأمـيركية، وإذا أمكن تبريره بقوة أميركا العظمى، فلماذا لا ينسحب الأمر على النظام الذي لم تعد الإدارة الأميركية الحالية تنوي تغييره؟
السؤال الأهم هو: إذا كانت التسوية ستُفرض بقوة السلاح، وبتفاهم أميركي – روسي، فما هو دور الهيئة العليا للتفاوض؟ بصياغة أخرى: لماذا لا تعلن الهيئة حل نفسها طالما لا وجود لما تفعله حقاً سوى التوقيع على وثائق مُعدّة سلفاً؟ وإذا كانت الهزيمة حتمية فهل من المحتّم الانصياع لنوع الهزيمة الذي تقرره الإدارة الأميركية؟
الشراكة المطروحة حالياً مع النظام تعني شيئاً واحداً: تخليصه من الأعباء الاقتصادية التي لم يعد قادراً عليها أصلاً، والأفضل تركها له لأنها ضمانة فشله، ولأنه لا وجود ولا مصداقية لأية وعود دولية تخص التغيير لاحقاً. لقد هُزمت الثورة وهُزم النظام، السلوك المنطقي أن يبادر كل طرف إلى تنحية المسؤولين عن الفشل. هذا ليس متوقعاً في معسكر النظام، وتلك قد تكون بشارة جيدة على المدى البعيد، أما في جانب الثورة فالإقرار بالفشل والتنحي واجبان اليوم. في الواقع، لم تكن شحنة المساعدات الكاذبة ذاهبة إلى داريا، بل كانت مرسلة إلى هيئات المعارضة.
* المصدر: “الحياة”
عذراً التعليقات مغلقة