فيما الاتصالات الروسية الإسرائيلية لا تزال ناشطة لترتيب أرضية الاتفاق في الجنوب السوري، برز مؤشر جديد يتصل بالحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، إذ كشف رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي عن اقتراح أميركي لترتيب مفاوضات بين لبنان وإسرائيل على الحدود بينهما. الجديد في هذه الاتصالات ليس مبدأ التفاوض مع إسرائيل حول الحدود البحرية التي نشب نزاع بين البلدين منذ سنوات وتصاعد إعلاميا مع بدء استعداد لبنان لتلزيم عملية استخراج النفط من البحر وخاصة البلوكات الواقعة على الحدود، والتي هي محل نزاع مع إسرائيل، لكن الجديد أنّ إسرائيل اقترحت أن يتم ترسيم كامل الحدود البرية والبحرية ومن ضمنها تلك المتصلة بمزارع شبعا، التي بقيت معلقة بعد انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000 وظلّت تحت سلطة الاحتلال التي اشترطت للانسحاب منها أن يتفق لبنان وسوريا على هوية هذه المزارع، فإذا كانت سورية فهي ترتبط بالقرار 242، وإذا كانت لبنانية فهي تقع ضمن مندرجات القرار 425 التي ادعت إسرائيل تنفيذه.
لم يقم لبنان ولا الحكومة السورية بحسم هذا الجدل حول هوية المزارع طيلة السنوات الماضية، وبقي مصير هذه المزارع معلقا لغايات تتصل بمصالح إستراتيجية تتصل بوجود سلاح حزب الله، فسوريا كما إيران كانت لهما مصلحة في إبقاء هوية المزارع معلقة، لغاية تبرير عدم تنفيذ كامل القرارات الدولية المتعلقة بنزع السلاح غير الشرعي والمقصود حسب القرارين 1559 و1701 سلاح حزب الله.
اليوم ثمّة اتصالات جارية وعلى مستوى عال لحل مشكلة ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل انطلاقا من مزارع شبعا، وتشير مصادر دبلوماسية غربية في بيروت إلى أنّ إسرائيل وجهت رسائل إلى لبنان عبر أكثر من جهة بأنها مستعدة لعملية ترسيم الحدود وحل نقاط الخلاف مع لبنان، إذ تؤكد هذه المصادر أن تل أبيب تعمل على خطين غير متعارضين واحد عبر واشنطن وآخر عبر موسكو. فالأخيرة مهتمة بالمشاركة الفعلية باستخراج الغاز من البحر وبالتالي رعاية اتفاق بين إسرائيل ولبنان لترسيم الحدود البحرية بينهما، وخط ثان عبر واشنطن الذي يقوم فريق من وزارة الخارجية الأميركية منذ أشهر باتصالات بين الدولتين عنوانها ترتيب اتفاق حول ترسيم الحدود.
إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني الأخير حول الربط بين الحدود البرية والبحرية، أُرفق بشرط أن تجري المفاوضات تحت إشراف الأمم المتحدة، وما يمكن ملاحظته في هذا التزامن بين ما يجري في مناطق الجنوب السوري وما يتحرك دبلوماسيا على الحدود الجنوبية للبنان، هو أن ثمة مساع إسرائيلية لعدم الفصل في عقد التفاهمات بإشراف روسي مع لبنان وسوريا، فكما أنّ إسرائيل تطمح إلى العودة إلى تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان قائما مع سوريا بعد حرب عام 1973 والذي أتاح لها السيطرة الهادئة على الجولان، فإن روسيا في المقابل تطمح إلى تثبيت هذا الاتفاق من خلال عودة الجيش السوري لإمساك المناطق السورية المحاذية للجولان، ومن دون أي وجود إيراني، وهذه نقطة تقاطع روسية إسرائيلية، وتستجيب لمسار إعادة تأهيل النظام السوري إقليميا ودوليا.
في المقابل تبدو إيران في موقع لا تحسد عليه، كما أنّ حزب الله يتحسس مخاطر وتداعيات خطوة الانسحاب من سوريا على سيطرته وتحكمه بإدارة ملف الحدود مع إسرائيل، لذا هو يدرك أنّه بات أمام خيارات حاسمة ستفرض عليه في المستقبل القريب. فالتحصن في لبنان كإستراتيجية معتمدة من قبله اليوم، باتت مشروطة بالمحافظة على قدر مهم من الثقة مع الجانب الروسي، فإسرائيل التي نجحت إلى حدّ بعيد في بناء الثقة مع روسيا في الشأن السوري المتصل بأمنها، تبدو اليوم أكثر اطمئنانا على هذا الصعيد لمستقبل ترسيم الحدود مع لبنان، لا سيما أنّ التقاطع الروسي الأميركي يرتكز في ملف حدود إسرائيل وأمنها، على المطلب الإسرائيلي، وهذا ما يجعل لبنان أمام خطر أن يبقى خارج أي حماية دولية فيما لو بدا الموقف اللبناني غير مهتم بترتيب ملف حدوده مع إسرائيل، وغير متجاوب مع العرض الإسرائيلي الذي يبدو قويا طالما أنه يبدي استعدادا لحسم هذا الخلاف الحدودي مع لبنان وانطلاقا من مزارع شبعا بعد حسم هويتها بين لبنان وسوريا.
لا يمكن النظر إلى هذا الحراك الممتد على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، على أنه مشهد مكرر، بل تتقاطع مصادر سياسية لبنانية وأخرى دبلوماسية غربية، على أن الاتفاق في الجنوب السوري الذي يُصاغ اليوم بإشراف روسيا، لن يكون منفصلا عن الاتفاق على ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، وبالتالي هو ليس منفصلا عن تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا أولا وفي لبنان تاليا. وإيران لن تقبل بأن يتم الاستفراد بها في هذين البلدين بسهولة، لذا لا يمكن الحديث عن الوصول إلى ما يؤشر على أن الطموحات الإسرائيلية بشأن الترتيبات الأمنية على حدودها الشمالية تسير بخطى ثابتة وراسخة، وإن كان الإطار العام قد جرى رسمه دوليا وبرعاية أميركية-روسية، فأمين عام حزب الله، حسن نصرالله، الذي يتحسس مخاطر انسحاب حزبه والميليشيات الإيرانية من سوريا بعدما دفع الغالي والنفيس من أجل بقاء النظام السوري، أعلن في خطابه الأخير بمناسبة يوم القدس، أن أحدا لا يستطيع فرض الانسحاب عليه من سوريا إلا الرئيس بشار الأسد، وهذا الموقف جاء إثر مناوشات وقعت بين حزب الله والقوات الروسية في مناطق سورية في القلمون القريبة من الحدود مع لبنان، وفي ظل مسار روسي يتضح يوما بعد يوم، يدعو إلى سحب الميليشيات الإيرانية من سوريا.
الخيارات تضيق أمام إيران وحزب الله، وهي تتركز اليوم بين خيار الهروب إلى الأمام عبر فتح مواجهة عسكرية مع إسرائيل، يدرك الجميع أنها لن تكون محصورة في سوريا بل ستشمل لبنان، أو خيار تقديم التنازلات بما يضمن تنفيذ معظم الشروط الإسرائيلية وهذا أيضا دونه مصاعب على حزب الله وإيران فيما لو سلما بضرورة الالتزام بموجبات إستراتيجية تتصل بالإقرار الرسمي بأمن إسرائيل على حدودها الشمالية.
الرئيس نبيه بري الذي نجح في فترات سابقة في أن ينقل على طريقته وجهة النظر الإيرانية في لبنان إلى من يعنيهم الأمر دوليا، حرص على أن يؤكد قبل أيام وفي موقف غير مسبوق، أن انسحاب حزب الله وإيران من سوريا لن يتم قبل تحرير سوريا، وهو موقف قرأه بعض المراقبين على أنّه يعكس حالة الضيق الإيراني من الضغوط الدولية والإقليمية في سوريا، لكن من جانب آخر فإنّ بري الذي يحمل رسالة إيرانية في هذا الموقف ولحزب الله بطبيعة الحال، يسعى إلى عدم الربط بين أي اتفاق بين جنوب سوريا وجنوب لبنان، حتى لو أدى ذلك إلى إبقاء ملف الحدود مع إسرائيل معلقا مع مشروع استخراج الغاز الذي علّق الرئيس بري عليه الآمال لمستقبل لبنان الاقتصادي.
عذراً التعليقات مغلقة