حدثان أثارا أخيراً امتعاض شريحة من مؤيدي الأسد، أولهما إصدار إدارة المدينة الجامعية في حلب بلاغاً يطالب المقيمين فيها بعدم الإفطار العلني أثناء شهر رمضان، وتجنب الخلوات بين الطلاب والطالبات. الحدث الثاني هو إبرام جامعة حمص اتفاقية مع مديرية أوقاف المدينة، بغرض إقامة ندوات وورشات عمل مشتركة، من أجل تعريف جيل الشباب بالقيم الدينية «الصحيحة». بالتزامن، كانت وزارة الأوقاف قد أصدرت بياناً تدافع فيه عن «القُبيسيّات» في وجه مهاجميهن من الشريحة ذاتها، والقبيسيات هو تنظيم دعوي نسائي موجود قبل الثورة، واشتُهر بموالاته بعدها.
مَن يظهرون غضبهم، إزاء ما يعتبرونه تنازلاً للأصولية، يوحون بوجود عقد مضمر بينهم وبين تنظيم الأسد، على قاعدة علمانية الأخير، وبخاصة على قاعدة تصوير حربه على السوريين كمعركة ضد الإرهاب الجهادي. وفق هذا المنظور، سيكون انحراف سلطة الأسد بتقديم تسهيلات للإسلام المعتدل، بموجب تعريفه الخاص، بمثابة خيانة لذلك العقد وللأسس الأيديولوجية التي ينبغي أن تجمع طرفيه. من هم أشد جهراً بموالاتهم يصفونها بالخيانة «للشهداء الذين قاتلوا الإرهاب»، ويرون ذوي أولئك الضحايا أولى بالإنفاق عليهم من الإنفاق على المؤسسات الدينية القائمة.
يتناسى هؤلاء أن سلطة الأسد بادرت مع بدء التظاهرات عام 2011 إلى الإعلان عن رزمة من القرارات، منها إعادة المنقّبات إلى التعليم وإطلاق قناة تلفزيونية إسلامية وإنهاء التعليم المختلط في بعض المدارس. كانت مفارقة آنذاك المبادرة إلى إجراءات لم يُطالب بها المتظاهرون، مع تجاهل مطالبهم التي تنص على تغيير في النظام السياسي، إلا أن تلك المفارقة كانت مفهومة تماماً من قبل من يريدون التغيير، بوصفها التفافاً على مطلب الحرية، وأيضاً مغازلة للإسلاميين كي يقفوا مع النظام.
استرجاع تلك الحادثة يفيد بأن تنظيم الأسد لم يكن يوماً عقائدياً على النحو الذي يريد تصويره غاضبو اليوم، وأن دعايته «العلمانية» موجهة أصلاً للاستهلاك الغربي لا للتصريف محلياً. ثم إن تلك المبادرة بتقديم ما لم يطلبه المتظاهرون حينها تصب في خدمة البروباغندا ذاتها، أي تصويرها كتنازلات لحراك إسلامي، ونزع الصفة الديموقراطية عنه باكراً.
حتى ما يغضب منه المؤيدون اليوم، في ما يخص القبيسيات والاتفاقية بين الجامعة ومديرية الأوقاف، يبدو أنه يتجاوزهم ذكاءً، فهو يرمي إلى نفي تهمة الطائفية عن تنظيم الأسد، ونفي استخدامه أسلحة الإبادة والتدمير والتهجير المنهجيين على أسس طائفية. كأنه يقول: انظُروا، على العكس مما يُقال، ها نحن نقدم تسهيلات غير مسبوقة للإسلام المعتدل، وذلك في الوقت الذي نشعر فيه بأننا منتصرون.
إننا على الأرجح أمام ذاكرة ضحلة، أو نسيان متعمد، ممن تستفزهم دعايات الأسلمة العائدة للأسد حالياً. ففي أثناء حربه على الإخوان قبل نحو أربعة عقود، عمل الأسد الأب على مسارين، سحقهم نهائياً مع توسيع قاعدة العلاقة مع رجال الدين الذين يقبلون به. حينها أنشئت مدارس سُمّيت بمدارس الأسد لتحفيظ القرآن، ونالت المدراس الشرعية اهتماماً أقوى من قبل، بل جرى تشجيع البعثيين على التسجيل في كلية الشريعة، بما يفترضه ذلك نظرياً من إدخال ظاهرة التدين إلى قلب الحزب الحاكم بأيديولوجيته المغايرة والمنافسة.
العقلية التي تعتمد هذا النهج لم تتغير، هي ذات جذر طائفي إذ تتوهم اكتساب الشرعية عبر مظاهر الأسلمة، وإذ ترى في مقايضة الأسلمة بالحريات العامة مقايضة مقبولة من الجمهور المستهدف نفسه، وقبل ذلك إذ ترى في هذا الجمهور صبغة دينية قبل استحقاقات المواطنة. تعزيز السمة الأخيرة تحديداً يُراد به المصادرة على التغيير ماضياً ومستقبلاً، وهو يعمل على مستويات عدة، مستوى الجمهور المعني باستمرار التعاطي معه وفق التنميط المذهبي، ومستوى بقية السوريين لترسيخ هذا النمط في أذهانهم، والمستوى الخارجي بربط هذه الصورة بالإرهاب وطرحه كبديل وحيد عن الأسد.
لا شك في أن هذا النهج يجد سنداً بتقدم ظاهرة الجهاد العالمي، وباستثماره فيها، وقد اكتسب مهارة المشاركة في تصنيع الجهاديين والتسهيل لهم، وفي التنسيق مع مختلف أجهزة المخابرات الدولية لرصدهم والقضاء عليهم. ذلك لا يمكن أن يكون فعلاً خارجياً فحسب، وكان يتطلب دائماً إيجاد أرضية داخلية لتلك التنظيمات مع مراقبتها واختراقها أمنياً. هذه اللعبة المزدوجة غير خافية عن الجهات الدولية المعنية، إلا أنها ترى في هذا الشكل من الاستثمار والتنسيق معها خياراً أفضل من غياب التنسيق، فوق توجسها من عدم القدرة على ضبط البديل الذي لا تراه بديلاً ديموقراطياً. وهي أيضاً غير خافية على التنظيمات الجهادية، إلا أن لديها من البراغماتية ما يكفي لعقد تحالفات تتوهم الكسب من خلالها، حتى إذا ثبت مرة تلو الأخرى ترجيح خيار التضحية بها.
يتقدم تنظيم الأسد على مؤيديه بإدراك خيوط اللعبة، وبأنه لا يريد انتصاراً أيديولوجياً تاماً بالمعنى الذي يتصورونه. الانتصار التام يفترض انتهاء حقبة وفتح حقبة مختلفة من التناقضات الاجتماعية، وهذا ما يريد استبعاده نهائياً. على العكس من قصر نظر هؤلاء، يعمل تنظيم الأسد على الدوران في الحلقة ذاتها، بحيث يمكن له إنتاج التناقضات ذاتها كل مرة، ولعل نجاحه المرة الأولى بعد سحق الإخوان أفضل أمثولة بالمقارنة بأولئك العقائديين من جمهوره. يُذكر في المواجهة مع الإخوان أيضاً أن هناك من توهموا كونها مواجهة أيديولوجية، ومن ظنوا أنفسهم شركاء في النصر ليكتشفوا سريعاً بديهيةَ أن سلطة الأسد لا تقبل بأية شراكة.
يُذكر أن قسماً من الممتعضين لا يعدّ نفسه علناً على المؤيدين، وإن كان يشاركهم الرأي في كون حرب الأسد معركة ضد الإرهاب، وفي أحسن الأحوال يمكن اعتبار أوهامه نوعاً من خداع النفس لا يُلزم تنظيم الأسد بشيء. في كل الأحوال، لا يُتوقع من هذا التذمر جني أية فائدة معرفية، ولو جرت استعادة الشريط مرة أخرى ثمة اعتبارات عديدة ستعيد الاصطفاف الذي حدث بحذافيره، هذا واحد من مظاهر الاستعصاء السوري.
لمناسبة هذا الحديث قد تُستدعى حالة الذين ظنوا بإمكانية التحالف مع الإسلاميين لإسقاط الأسد، والحق أن وهم مشاركة جهاديين في مشروع ديموقراطي لا يتفوق عليه سوى وهم قيام الأسد (والشراكة معه) بالحرب عليهم.
عذراً التعليقات مغلقة