استلم حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في سورية عبر انقلاب عسكري في الثامن من آذار 1963 ، وتبقى الفترة التي حكم فيها حزب البعث من عام 1963 وحتى استلام الرئيس السابق حافظ الأسد السلطة عبر انقلاب آخر تحت مسمى “الحركة التصحيحية” من أكثر الفترات غموضاً واضطراباً بنفس الوقت، أولا بسبب الصراعات الداخلية بين أجنحة حزب البعث، وثانيا الخلافات الشخصية التي أخذت منحى طائفياً وأيديولوجياً في الكثير من الأحيان، ومع تغير الولاءات والمحاور كانت السياسة الخارجية السورية تعيش مرحلة من الاضطراب والصراع خاصة مع إسرائيل وبشكل ثاني مع الولايات المتحدة.
فقد عمل سياسيو حزب البعث على الاستفادة من التناقضات الدولية لتعزيز مواقعهم الداخلية ضد “أعدائهم المحليين” ، فبعضهم استثمر الحرب الباردة إلى أقصاها في محاولة لتحييد الجناح المضاد والفوز بمطلق السلطة، ولعل وثائق المخابرات المركزية الأمريكية تكشف مادة غنية للبحث والنظر كيف تطورت الأمور خاصة بالنسبة لشخصية محورية كحافظ الأسد، الذي مات ولم يترك ورقة واحدة أو يسمح لباحث أو شخص بالتعرف على طريقة صعوده للسلطة وكيف تمكن من زمام الأمور، في الحقيقة تقدم وثائق المخابرات الأمريكية مادة ثرية جداً تكشف عن طموحه المبكر وصعوده للسلطة على حساب مبادئ الحزب وعلى حساب كل رفاقه في الحزب.
بالطبع كانت الولايات المتحدة تنظر بعين الريبة إلى صعود حزب البعث إلى السلطة في سورية بما حمله من شعارات يسارية وشيوعية، خاصة إذا وضعنا ذلك ضمن منظور الحرب الباردة ووضع مكافحة انتشار الشيوعية كهدف رئيسي في السياسة الخارجية الأمريكية تحت إدارة كنيدي، ولذلك راقبت السفارة الأمريكية بدمشق مع الاستخبارات الأمريكية انقلاب حزب البعث عن كثب وكانت ترسل التقارير شبه الدورية ، ففي أحد التقارير يشير إلى “أن تطور الأحداث السياسية في دمشق تطور بشكل غير مسبوق، إذ تشير كل التقارير أن الانقلاب الأبيض الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة بقي سلمياً، لكن صراع الأجنحة السياسية والعسكرية داخل الحزب هي ما يستحق المتابعة وكيف يمكن أن تتطور هذه الصراعات في المستقبل”
وتضيف الوثيقة كاشفة حقيقة الصراعات داخل السلطة في تلك الفترة في سورية ” لقد وعد نائب رئيس الوزراء الجنرال محمد عمران بأنه تم السماح لرئيس الوزراء السابق خالد العظم الذي قدم لجوءا سياسيا إلى السفارة التركية في دمشق، سمح له بالمغادرة، كما أن الرئيس السابق ناظم القدسي أطلق سراحه من مشفى سجن المزة العسكري، كما أن هناك تقارير غير موثوقة تشير إلى إطلاق سراح رئيس الوزراء السابق معروف الدواليبي، كما أن تقارير أخرى تضير إلى صلاح البيطار يخطط لمغادرة مجلس قيادة الثورة لأسباب صحية “
وتتابع الوثائق بدقة ملحوظة تحركات وبنفس الوقت الانقسامات الانشطارية الكبيرة التي حصلت داخل الحزب، فصعود “اللجنة العسكرية” داخل جهاز حزب البعث المتربع على السلطة عنى بالحقيقة شيئاً واحداً هو إقصاء النخب السياسية البعثية التقليدية عن صنع القرار وعلى رأسهم بالطبع ميشيل عفلق.
ففي وثيقة تعود إلى 6 ديسمبر 1963 تشير إلى أمين الحافظ ” يحاول جاهداً ضمَّ الحركات الأخرى غير البعثية ضمن النظام الحاكم ” إذ من المعروف أن حزب البعث لم يستطع الوصول إلى السلطة بدون التحالف مع التيار الناصري الذي كان له أتباعه داخل الجيش، وبالتحالف مع التيار الوحدوي بزعامة أكرم الحوراني، ولذلك تضيف الوثيقة ” يحاول الحافظ مع الجنرال عمران ولأول مرة منذ 8 آذار 1963 بقيادات مختلفة من الزعامات السياسية السورية التقليدية بناء تحالف جديد” . وتشير الوثيقة إلى الاجتماعات التي عقدها “الحافظ مع أكرم الحوراني، ومعروف الدواليبي والقيادات البعثية في المهجر خاصة في بيروت، وتشير التقارير إلى إطلاق سراح عدد من القيادات بما فيها الدواليبي بالإضافة إلى إلغاء منع السفر عن عدد كبير من السياسيين”. و”تؤكد التقارير أنه ربما يكون زهر الدين أول السياسيين الذين يحصلون على حريتهم، بالإضافة إلى ناظم القدسي، وهناك تفاؤل كبير خاصة ضمن طبقة رجال الأعمال حيث سجلت البورصة المحلية هنا ارتفاعا ملحوظا قدر بخمس درجات “.
كما تكشف وثيقة سرية للمخابرات المركزية الأمريكية CIA تحضير عبد الناصر لانقلاب ضد غريمه البعثي في سورية كما تظهر حجم الصراع الضاري بين عبدالناصر وقيادة حزب البعث في تلك الفترة، فهي تنقل باستمرار عن “تصريحات عبدالناصر وتوقعاته بأن انقلاباً أبيض سيجري في سورية قريباً، ويضيف ناصر بأنه على اتصال مع لؤي الأتاسي الذي يخطط التنسيق للانقلاب مع الجنرال محمد عمران. وإذا ما نجح الانقلاب فإن هناك حكومة جديدة ستكون في سورية من أولوياتها ستكون الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة”.
عذراً التعليقات مغلقة