سيذكر الفلسطينيون طويلاً تاريخ 17-12-2012 الذي سيضاف إلى أوراق تقويمهم الحافل باللجوء والنزوح والإبعاد والشتات. في اليوم السابق له، استهدفت طائرات الأسد مسجد عبد القادر الحسيني ومدرسة الفالوجة ومحيطهما بالقصف، فأوقعت مئة وخمسين شخصاً بين قتيل وجريح، من بينهم نازحون من المناطق المجاورة احتضنهم المخيم وأهله.
كانت هذه المجزرة ضرورية جداً لبث الرعب في نفوس الناس، وقد أعطت مؤشراً حسياً ملموساً عن نية النظام اقتحام المخيم. كذا كانت الشائعات التي تم نشرها بعناية بين سكان المخيم في فترة سابقة للقصف، وكان لا بد أن تحوز دفعاً للأمام. فتحول مخيم اليرموك، بين عشية وضحاها، من أكبر تجمع في الشتات يضم مئات الآلاف من فلسطينيين وسوريين، إلى حدث سيتصدر المشهد الإخباري طويلاً يضم ثلاثة آلاف عائلة، ستستهلكهم فصول المأساة القادمة بالتدريج.
لنعد قليلاً إلى الوراء عسى أن تتضح الصورة أكثر: في 6-6-2011، وبعد عودة المتظاهرين من تشييع شهداء مسيرات إحياء ذكرى النكبة والنكسة الذين سقطوا في الجولان المحتل، توجهوا غاضبين إلى مبنى الخالصة، مقر الجبهة الشعبية- القيادة العامة. كان موجوداً فيه آنذاك الأمين العام أحمد جبريل، ونائبه، وسواهم. كان المشيعون على بينة من محاولة استغلال النظام والفصائل الفلسطينية الحليفة التابعة له لهذه المسيرات بهدف التغطية على الأحداث في سوريا، والمتاجرة بدماء الناس. تعرض المتظاهرون للرصاص الذي أوقع عدداً من القتلى والجرحى، فأحرقوا المقر، وفرّ الأمين العام وسائر القادة في سيارات الإسعاف. بقينا في مشفى فلسطين من فترة بعد الظهر حتى ساعات الليل المتأخرة نستقبل المصابين. وكان معظم ما سبق يتم على مرأى من “قوات حفظ النظام” التي هرعت إلى المخيم، لكنها آثرت عدم التدخل في إشكال فلسطيني- فلسطيني!
كنت محظوظاً أن وقع بين يدي الكتاب الطريف /المخزي/ المؤلم الذي أصدرته القيادة العامة بعد ذلك لتشرح فيه أحداث الخالصة. فهذا الكتاب يشكل في مجاله تحفة فنية بكل المقاييس تبين ما تمارسه الأنظمة الشمولية المستبدة وتوابعها من تشويه للوعي، وتحريف للحقائق، وصناعة للتاريخ الزائف، بما تقصر عنه مخيلة جورج أورويل في روايته (1984). ثم ما حاجتنا إلى الروايات وخيالها، والواقع ماثل بكل عريه أمام أعيننا؟
بين التاريخين السابقين، كان ينمو النزوع المؤيد للثورة في صفوف شباب المخيم، الذي شهد مظاهرات ليلية، ومظاهرات طيارة، واشتباكات على أطرافه بين الجيش الحر وحلفاء النظام. في يوم 13-7-2012 كانت هبة كبيرة قتل فيها عشرة أشخاص على الأقل، وفي يوم 2-8-2012 الموافق للثالث عشر من رمضان ذاك العام، سقطت عدة قذائف هاون في شارع الجاعونة، فقتل عشرون شخصاً، بينهم أطفال.
المخيم المؤيد للثورة والمعارض للنظام، هذا الخزان البشري الهائل، يشكل خطراً كبيراً لا بد من تحييده في أقل تقدير، وإفراغه من سكانه خطوة رئيسة على هذا الطريق. لذا كانت الشائعات، وكان التخويف، وكان الاعتقال، وكانت المجازر، وكان قصف الطيران للمسجد والمدرسة في 16-12-2012، وكان تلقي القيادة العامة أوامر بالانسحاب من المخيم، وكانت التغريبة الثالثة.
المهمة الأولى: تمت بنجاح.
أخذت ملامح الحصار ترتسم مع بداية عام 2013، تشكل في مدخل المخيم حاجز يضم عناصر من النظام واللجان التابعة للقيادة العامة وفتح الانتفاضة (مجموعات آدم سلايمة، وماهر المؤذن، والدحام، وسواهم)، وأخذ الحاجز على عاتقه:
● التحكم بدخول وخروج السكان.
● القيام بالتفتيش الدقيق.
● استخدام الملثمين أو المقنعين في الوشاية بمعارضي النظام.
● الاعتقالات العشوائية.
● الابتزاز.
● الحد من إدخال المواد الغذائية والطبية (ما القضية الوطنية التي تحققها من منع ربة العائلة أن تدخل معها أكثر من ربطة خبز وكيلو رز؟)
كان ذلك هو الحصار الجزئي إن جاز التعبير، في 17-7-2013 تم إغلاق المخيم نهائياً، وبدأ الحصار المطبق، المهمة الثانية.
عذراً التعليقات مغلقة