نص محاضرة الدكتور عزمي بشارة في مؤتمر “سبعون عاماً على نكبة فلسطين: الذاكرة والتاريخ”
رغم مرور سبعين عامًا لم تتغير أسس عدالة القضية
يمكن لأيّ مراقب، بغضّ النظر عن موقفه من القضية الفلسطينية، ومن دون مبالغات أيديولوجية أو افتئاتٍ على التاريخ، أن يدرك أن العنصر الأهم في شرعية قضية فلسطين وعدالتها هو كونها قضية تحرر وطني، إذ وقع الشعب الفلسطيني ضحية استعمار كلاسيكي مهّد لاستعمار آخر استيطاني إحلالي.
وعمومًا، من لا ينطلق من هذه الحقيقة التاريخية لا يعتبر قضية فلسطين مشروعة، أو يعتبرها في أفضل الحالات نزاعًا على الأرض بين حركتين وطنيتين؛ ومن ثم فهي ليست قضية تحرر، بل هي صراع فلسطيني – إسرائيلي Conflict، غالبًا ما تضاف إليه صفات مثل “معقّد” و”مزمن”، وغيرهما. ومؤخرًا، أصبح البعض يستخدم مصطلحات مثل خلاف على أراضٍ احتلت عام 1967، فهي ذاتها من هذا المنظور أراضٍ متنازع عليها Disputed Territories. وثمة في اليمين الأوروبي والأميركي من يميل إلى تناولها من باب مسألة الإرهاب، إرهاب بدأ فلسطينيًا وأصبح إسلاميًا، أو مقاربتها من زاوية صراع الأديان.
ولقد تغلغلت بعض التعابير المذكورة آنفًا حتى في محتوى الموضوع الفلسطيني في المقررات الدراسية الرسمية لبعض الدول العربية منذ بدايات التسعينيات من القرن الماضي؛ فقد عدلت في المقرر الدراسي، وغُيِّرت فيه، وحُذِفت منه المفاهيم التي تتناول إسرائيل بوصفها استعمارًا استيطانيًا.
وتجد هذه الأفكار قبولًا حتى في بعض الدول الآسيوية مؤخرًا[1] منذ أن جرى التخلي “رسميًا” عن خطاب حركة التحرر الوطني، وقد كان هذا الخطاب مصدر الشرعية السياسية في دول آسيا وغيرها، إذ كانت قضية فلسطين آخر القضايا الكولونيالية ورمزًا للنضال التحرري، وحتى نموذجًا في نظر حركات التحرر المتأخرة.
وقبل التخلي رسميًا عن خطاب حركة التحرر الوطني في اتفاق أوسلو ودخول منظمة التحرير الفلسطينية مرحلة السلطة الفلسطينية، وحاليًا السلطات، فعلت عوامل تاريخية سياسية – ثقافية في تشويش رؤية قضية فلسطين بوصفها قضية استعمار استيطاني إحلالي؛ ويتمثل أهم هذه العوامل أولًا بتشابكها مع المسألة اليهودية في أوروبا؛ وثانيًا بتداخلها مع ما أسميته المسألة العربية في منطقتنا. وسبق أن تطرقت إليها بتوسع في كتابٍ خاص بهذا العنوان. ومؤخرًا، أُضيف عامل تديين القضية بأسلمتها من قبل خصومها، وبعض حلفائها أيضًا، ما نفّر بعض القوى الديمقراطية المنحازة إلى العدالة؛ كما اصطُنِع في بعض الدول تداخل بين الموقف من قضية فلسطين وصراعات أخرى مع الحركات الإسلامية أو حتى مع مطالب إسلامية، كما في حالات الهند والصين في شرق آسيا وبعض الدول الأفريقية.
ولّد التداخل مع المسألة اليهودية في أوروبا مشكلتين: أولًا، تصدير إثم العداء للساميّة وجرائم الإبادة بعيدًا عن أوروبا بالاعتراف لليهود بدولة خارج أوروبا، وإسقاط العداء لليهود على العرب، ثمّ قبول اليهود في أوروبا بوصفهم جزءًا من الحضارة الغربية بعد إقصائهم عنها. فصُكَّ بقدرة قادر مصطلح حضارة يهو – مسيحية في القارة التي وقع فيها الهولوكست. وثانيًا، أنّ الفاعل المستعمِر المستوطن في حالة فلسطين يفهم ذاته على أنّه ضحية، بل يحتكر أيضًا دور الضحية. كما أنّه في فهمه لذاته ليس استعمار دول أجنبية لبلاد أخرى، بل حركة قومية. وهي قومية دينية من نوع خاص أنشأت دولة إثنو – دينية تعتبر الدين أساسًا لمنح المواطنة بصيغة ما تسميه قانون العودة، وأقامت نظامًا استيطانيًا يقوم على الفصل العنصري بطرد الأغلبية السكانية من وطنها عام 1948، وببناء نظامين حقوقيين؛ واحد لليهود وآخر لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد عام 1967، ومحاولة تكريس ذلك ببناء جدار الفصل العنصري؛ هذا عدا اعتبار الفلسطينيين الذين بقوا أقلية في حدود عام 1948 ومنحوا الجنسية الإسرائيلية، غرباء في وطنهم ومقاربتهم رسميًا باعتبارهم مجموعة أقليات غير يهودية في دولة لليهود.
أمّا المسألة العربية فتعقيداتها كثيرة؛ ومن أهمها التعويض بالأيديولوجيا عن عدم تحقيق الوحدة، وإعاقة نشوء أمة المواطنين، وإعاقة الوحدة بين الدول العربية والديمقراطية في كل بلد عربي على حدة بتأجيج النزعات القطرية والطائفية والجهوية، وغيرها. وقد تجلت المسألة العربية أيضًا في استغلال قضية فلسطين في الصراعات العربية الداخلية، بحيث كان الهدف والمحرك للمواقف في قضية فلسطين في كثير من الحالات الصراع بين دولة عربية ودولة عربية أخرى. لا يُستثنى من ذلك مراحل حاسمة مثل حرب 1948 وحرب 1967، وذلك حتى حين كان دافع مَن حاربوا في فلسطين وطنيًا فعلًا ومعاديًا للصهيونية.
وجوه الأداتية المتناقضة
لقد استخدمت قضية فلسطين أداةً في الصراع بين المحاور العربية في زمن الحرب العربية الباردة، ولتثبيت شرعية الأنظمة داخليًا أيضًا، إلى درجة وضعها بشكل مصطنع في مواجهة تطلعات الشعوب المشروعة تحت دعوى “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
وعلى الرغم من ذلك ظلت قضية فلسطين، ولمّا تزل، تحتل مكانة مركزية في الرأي العام العربي، ما يدل على متانة جذورها في الوجدان العربي؛ فاستمرارها يرمز أيضًا لاستمرار الفساد والاستبداد وعجز النظام الرسمي العربي، وواقع التبعية والتجزئة العربي. وتدل نتائج المؤشر العربي التي أعلنها المركز العربي، يوم الأربعاء 9 أيار/ مايو 2018، على أن قضية فلسطين ما زالت مركزية بالنسبة إلى العرب؛ إذ وجدنا شبه إجماع على اعتبارها قضية العرب جميعًا وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. ويرفض 87 في المئة من الرأي العام العربي أن تعترف حكومات بلدانهم بإسرائيل، مفسّرين هذا الرفض بأسباب متعلقة بطبيعتها الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية وعدائها لشعوب المنطقة. وعلى الرغم مما تعانيه المنطقة العربية من أزمات وصراعات وتدخّل قوى أجنبية في عدة بلدان، يبقى الرأي العام مجمعًا (بنسبة 90 في المئة) على أن إسرائيل تشكّل تهديدًا لأمن المنطقة واستقرارها، وأنها تمثّل مصدر التهديد الرئيس لأمن الوطن العربي. وتظهر تحليلات نتائج المؤشر العربي على نحوٍ جلي أنّ مواقف القوى الإقليمية والدولية وسياساتها تجاه القضية الفلسطينية هي عامل مقرر في بلورة وجهات نظر العرب نحو هذه القوى وتقييم سياساتها في المنطقة. كما أن الرأي العام العربي يذكر باستمرار جوانب من القضية الفلسطينية في تفسير تطورات تحدث في المنطقة العربية أو ظواهر تنشأ في نطاقها؛ فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فسّر جزء من الرأي العام اندلاع الثورة المصرية في مؤشر عام 2011 بسبب تحالف النظام المصري آنذاك مع إسرائيل أو تبعيته لها. كما يدرِج المواطنون العرب، بنسب ذات دلالة، أنّ إحدى طرق مواجهة التطرف والإرهاب تتمثل بإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية أو إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني[2].
وقد اتضح لاحقًا أنّ الاستخدام الأداتي لقضية فلسطين في الصراعات العربية – العربية، وفي تثبيت شرعية الأنظمة في مواجهة شعوبها هو الوجه الآخر للتطبيع. فمع تغير الظروف يمكن أن تُستخدم الأداة نفسها على نحو متناقض لتحقيق الهدف نفسه، وهو الحفاظ على النظام. إذ يمكن أن تُستخدم للمزاودة على نظام عربي آخر أو على الفلسطينيين أنفسهم واتهامهم بالخيانة والتفريط، ثمّ يمكن أن تُستخدم هي نفسها لكسب ودّ الولايات المتحدة الأميركية عبر إرضاء إسرائيل بتنازلات عن القضية الفلسطينية. أليس هذا أيضًا استخدامًا أداتيًا؟
والغريب أن التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني يرافقه أيضًا إطلاق العنان لجوقات كتبة السلاطين (ومؤخرًا الجيوش الإلكترونية لوزارات الإعلام والداخلية) للتحريض على الفلسطينيين وترديد فرية بيع الأرض الصهيونية، فغالبًا ما سمعنا الصهاينة يقولون إنهم اشتروا أرض فلسطين ولم يستولوا عليها بقوة السلاح. ويسأل الفلسطيني الحائر الذي تنهال عليه الشتائم: لماذا يفعلون ذلك؟ إنهم يريدون التقرب من إسرائيل لأجل مصالحهم، فما ذنب الفلسطيني ليشتموه؟ والجواب إنه تنافر إدراكي Cognitive Dissonance بين المواقف السابقة واللاحقة من جهة، وبين الأيديولوجيا والسلوك من جهة أخرى، يعبر عنه بهذا السيل من التهجمات العدوانية على الضحية، وإجابة عن تساؤلات الذات والضمير عن المبرر لمثل هذه الخيانة والتخلي عن الضحية. فلا مبرر أفضل من شيطنة الضحية حتى لو نفذت عملية الشيطنة بواسطة جيوش افتراضية وذباب إلكتروني هم صنعوه، فضلًا عن العودة فجأة إلى الدين (المرفوض عندهم في السياسة كما يدّعون) للبحث عن مبررات دينية أيديولوجية لشرعية الصهيونية في “الإسرائيليات” وغيرها، أو قبول الرواية التاريخية للصهيونية إلى درجة أدهشت عتاة اليمين الصهيوني من أمثال دنيس روس[3]. وهو ما لم يقدم عليه السادات الذي تحدث بلغة المصالح.
وكما تعلمون، ثمة وجه آخر للأداتية؛ إذ عبّر المظلومون أيضًا في العالم العربي وأنحاء كثيرة أخرى من العالم عن رفضهم للظلم عبر قضية فلسطين، واستخدموها هم أيضًا، بسبب شرعيتها، للخروج إلى الشارع تضامنًا مع فلسطين بدوافع نبيلة. ففي مرحلة معيّنة من تاريخنا كان التجمّع السياسي في المدن العربية متاحًا في المسجد فقط أو في ظلّ قضية فلسطين وتحت سقفها، لأنّ شرعيتها كانت مهيمنةً جدًا. وقد انتشر تعبير قضية العرب الأولى لأسباب صحيحة، وإن استُغِل في كثير من الحالات لأغراض باطلة. الأسباب الصحيحة هي فهم الشعوب العربية، وحتى الضباط الذين قاموا بانقلابات على الأنظمة التي فشلت في المواجهة مع العصابات الصهيونية في حرب 1948، أنّ قضية فلسطين هي تعبير عن الهيمنة الاستعمارية في المنطقة وتجزئة الوطن العربي، وأنّ الصهيونية وداعميها في الغرب سوف يصرون دائمًا على أن تلائم دول المنطقة نفسها مع وجود إسرائيل وطلباتها، وليس أن تلائم الأخيرة نفسها مع متطلبات العيش في هذه المنطقة. أقول هذا بغضّ النظر عن فشل هؤلاء الضباط أنفسهم وغيرهم في مواجهة إسرائيل لأسباب لا مجال لبحثها هنا.
أما الأغراض الباطلة لمقولة “قضية العرب الأولى” كقولة حق يراد بها باطل، فتتلخص في استخدامها لتهميش قضايا المظلومين الأخرى، واتهام كل من يثير قضايا أخرى في الوطن العربي غير قضية فلسطين بالتخلي عن الأخيرة. يفترض هذا المنطق عدم التضامن مع المضطهَدين في أي دولة عربية. فعلى سبيل المثال، لا يجوز اتخاذ موقف من مذبحة الشعب السوري وعمليات الإبادة الجماعية التي تعرّض لها، لأن هذا سيكون على حساب قضية فلسطين. وهو منطق أقل ما يقال في وصفه إنه معتل، فــأي نضال ضد الظلم يستمد شرعيته من الموقف إلى جانب العدالة، ورفض سياسات قمع المجتمعات وإذلالها وسيلة للتحكم فيها بغضّ النظر عن هوية الفاعل، فما بالك بموقف شعب تعرض لعمليتَي سطو وتهجير من قضية شعب شقيق يتعرض للإبادة والتهجير الجماعي بالبث المباشر؟
هل يكمن الفرق في أن الفاعل مستعمِر أجنبي؟ وهل يخفف هذا الفرق عن ضحايا ما يمكن تسميته “المستعمر الداخلي”؟ أم تكمن المشكلة في أن جرائم “الاستعمار الداخلي” جعلت جرائم الاحتلال الأجنبي تبدو نسبية، فلا بد من إنكار الأولى لتجنب مثل هذه النسبية؟
لا تتوقف عدالة القضية على أعداد القتلى والجرحى وعدد الجرائم والمذابح المرتكبة. وإن مصدر شرعية قضية فلسطين هو كونها قضية احتلال كولونيالي، وأن المجرم في حالة فلسطين يعادي التقدم نحو الحرية والديمقراطية في العالم العربي بأجمعه أيضًا.
كما أنّ الشعوب بتبنيها فكرة فلسطين قضية العرب الأولى، كانت في الحقيقة تعتبرها محور الهوية العربية، أو أحد أشكال التعبير عن الهوية العربية. والحقيقة أنّ التطورات التاريخية منذ عام 1948 وحتى اليوم تُثبت أنّ تبنّي قضية فلسطين والتفاعل معها يتناسبان طرديًّا مع صعود الهوية العربية، وعكسيًّا مع النزعة القُطرية المحلية. ويمكن أن نظهر بالأدلة أنّه كلما قرّر زعيم عربي التوجه إلى التطبيع مع إسرائيل، أو التخلي عن ثوابت القضية الفلسطينية، رافق ذلك حملة على العرب والهوية العربية، وتأكيد “إثنية” محلية ذات جذور تاريخية متخيلة (وليس أمة مدنية تقوم على المواطنة بالطبع)، لأنّ ثمّة إدراكًا يكاد يكون فطريًا للترابط بين الالتزام لفلسطين وعروبة البلد.
العقد الأخير
سبق أن كتبت تحليلًا مطولًا لمسار القضية الفلسطينية في الذكرى الستين للنكبة، وصدر في كتاب أن تكون عربيًّا في أيامنا في عام 2009. ولدي أكثر من سبب للانطلاق من هناك وعدم استعراض تاريخ القضية الفلسطينية كلّه، ليس أقلّها أهمية الزمن المخصص لهذه المحاضرة.
مذّاك، شنّت إسرائيل ثلاث حروب ضدَّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتصلّب عود سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وأخرى في قطاع غزة، وترسّخ الانقسام الفلسطيني ليكتمل في سلطتين يقودهما فصيلان متخاصمان في منطقتين منفصلتين جغرافيًا، تفصل بينهما إسرائيل نفسها؛ ما يجعلها قادرة على تعميق الشرخ. واستمر الحصار الذي يفرضه الاحتلال ومصر على قطاع غزة، وتواصل تهميش منظمة التحرير الفلسطينية واللاجئين الفلسطينيين، أو ما يسمى الشتات الفلسطيني في الخارج. ونشبت الثورات العربية والثورة المضادة التي كان التطبيع مع إسرائيل من المظاهر المرافقة لها (أقصد مرافقة للثورة المضادة).
لم تتمكن جامعة الدول العربية من عقد مؤتمر قمّة في زمن الحرب على غزة، وجرى إفشال قمّة غزة التي عُقدت في الدوحة، بالتجنيد العلني والمباشر لعدم حضورها. قامت بجهد الإفشال الدول نفسها التي تطبّع علنًا مع إسرائيل حاليًا وتصرح أن حماس دولة إرهابية. وكما في حالة العدوان الإسرائيلي في حرب 2006 في لبنان، وقف محور عربي كامل عام 2008-2009 منتظرًا انتصار إسرائيل على المقاومة الفلسطينية وتصفية حركة حماس.
كان ذلك قبل الثورات العربية. كنّا نعيش في تلك الفترة مرحلة الانقسام إلى محوري اعتدال وممانعة (أو مقاومة) الذي حل محل الانقسام بين أنظمة تقدمية (حليفة للسوفيات) وأخرى رجعية (حليفة لأميركا وبريطانيا) من أيام الحرب الباردة. لكن، كان الجميع يعرف أنّ ما يُسمى قيادة محور الممانعة في حينه، متمثلة عربيًّا بالنظام السوري، كان منخرطًا رسميًا في جولات مفاوضات سلام مع إسرائيل، وكان آخرها يجري في تلك الأيام عبر إسطنبول. ولم تكن القضية الفلسطينية على جدول أعمال التفاوض، بل الانسحاب من الجولان[4]. أي إنّ النظام العربي المركزي فيما يسمى محور الممانعة كان يحاول إقناع إسرائيل بتبني نموذج كامب ديفيد في السلام مع سورية، أي الانسحاب من الأراضي السورية المحتلة عام 1967 مقابل السلام الكامل. لم يتضمن السلام السوري الإسرائيلي المنشود حق العودة للاجئين الفلسطينيين (وقد انسحب ذلك على لبنان الذي انتظر نتائج المفاوضات السورية الإسرائيلية)، ولم يجرِ فيه الحديث عن حلٍ عادل لقضية فلسطين، فهذه تركت كما هو معروف لمسار التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني بعد أوسلو.
لم تكن القضية الفلسطينية في مركز اهتمامات الأنظمة العربية. والمشكلة أنها استخدمت أداةً، تارة في توسل رضا الولايات المتحدة عبر السلام مع إسرائيل، ولا سيما منذ بداية أفول نظام القطبين، وأخرى في التصعيد ضد أنظمة أخرى، وفي المساومة مع المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وإن تطلبت عملية المساومة في بعض الحالات تصعيدًا ضدها كما في العراق ولبنان.
وأكاد أجزم أنّ واقع تهميش القضية الفلسطينية كان من عوامل انفجار الثورات العربية بعد الاستبداد والفساد والتوريث، وغيرها. وقد أثبتت دراساتنا المنشورة عن مصر وتونس وغيرها، أن قسمًا كبيرًا من قيادات ثوار عام 2011 تدرب على النضال في مظاهرات تضامن مع العراق ضد الحصار والعدوان عام 2003، ومع الشعب الفلسطيني خلال الانتفاضة الثانية وفي غزة عامَي 2008 و2009.
لم تُهمّش الثورات العربية قضية فلسطين إذًا، بل أعادتها إلى مركز الصراع وذلك في مكانها الطبيعي إلى جانب الشعوب وتطلعها إلى العدالة والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان وضد أنظمة الاستبداد التي همشتها. لكنّ منطق الثورات المضادة الذي نختصره هنا بجملة واحدة: “الاستبداد العائد أسوأ من الاستبداد البائد” ينطبق أيضًا على موقف الاستبداد العائد من قضية فلسطين. لقد تجلت الثورة المضادة على مستوى قضية فلسطين في تحويل التطبيع مع إسرائيل إلى تحالف معلن في بعض الحالات.
ومثلما اعتبرت إسرائيل، كما أدرسها كباحث، عام 2011 أسوأ أعوامها بوصفه فاتح مرحلة من عدم اليقين الكامل والعجز عن التنبؤ بما سوف يجري في العالم العربي، والرعب من اقتحام الشعوب العربية المجال العمومي وعملية صناعة القرار السياسي (فإسرائيل لا تنوي أن تنتظر كل عام أو بضعة شهور نتائج الانتخابات في دولة عربية أخرى)، كان عام 2013 أفضل أوقاتها، وهو عام بداية تحقيق الثورة المضادة إنجازاتها، وأقصد الانقلابات العسكرية المدعومة بقوة من قبل أنظمة خليجية رجعية (بمعنى عدائها للتغيير والتقدم والديمقراطية) مثلما أقصد الثورة المضادة الصاعدة من قاع المجتمعات الثائرة نفسها والمتمثلة بحركات متطرفة مثل تنظيم الدولة وغيره، والتي استغلّت الثورات وعفويتها وعجزها عن التنظيم، وما تعتبره حالة الفوضى، لكي تفرض أجندتها على الحركة الجماهيرية. وقد هُزِمت، وسوف تهزم، ولن تخلِّف وراءها سوى إحلال توق الناس إلى الأمن والاستقرار محل تطلعهم إلى الحرية وتحقيق المطالب، وسوف يستمر هذا بعض الوقت، ولكن ليس إلى الأبد.
لقد اعتبر مسؤولون إسرائيليون وصول رئيس الاستخبارات العسكرية الذي أصبح وزير دفاع ثمّ رئيسًا، إلى سدّة الحكم في أكبر دولة عربية ذخرًا إستراتيجيًّا كبيرًا، ولا يقل عن ذلك أهمية العملية المتسارعة التي بدأت في المجاهرة بالتطبيع والعلاقات بإسرائيل من طرف دول خليجية، واعتبارها حليفًا في الصراع مع إيران. وأقول “مجاهرة” هذه الأنظمة بالتطبيع، لأنّ بعض هذه الاتصالات الأمنية والسياسية كان قد بدأ قبل ذلك بكثير، من دون الإعلان عنه، أو التباهي به كما يحصل حاليًا. ويترافق التطبيع مع التخلي عن قضية فلسطين، وتبرير ذلك نفسيًّا كما يبدو بشتم الفلسطينيين والعرب، وفي بعض الحالات حتى المسلمين جميعًا. فهذه مسألة نعرفها جيدًا، حتى على الساحة الفلسطينية، فالتقرّب من إسرائيل يتطلّب الإساءة إلى تاريخنا وشتم العرب والمسلمين، واصطناع جذور تاريخية متخيلة لنفي العروبية، والمبالغة في حجم التضحيات التي قدمتها الدولة المعنية لفلسطين، وغالبًا من قبل أفراد لم يُقدموا شيئًا لفلسطين أو لغيرها أصلًا.
على الرغم من استخدام كلمات، مثل “لبرلة” وغيرها، لا تترافق عملية التطبيع مع إسرائيل مع أي نوع من اللبرلة، ولا حتى الاقتصادية. فالنيوليبرالية التي تتناسب مع تفرد طغمة بالحكم، ونشر بعض أنماط الحياة الاستهلاكية، لا علاقة لها بالليبرالية، فالأخيرة تضع الحرية في مركز قيمها وكذلك احترام الحريات. في حين أن طبعة النيوليبرالية الصادرة في دول التطبيع معادية للديمقراطية علنًا، وتعتبر نفسها ردًا على مطلب الديمقراطية. إنّ التطبيع مع إسرائيل هو مقايضة مع الغرب، وتتلخص المقايضة أو المساومة بالتطبيع في مقابل دعم الغرب للنظام وتجاهل قضايا الحريات وحقوق الإنسان وغيرها، حتى لو تضامنت مع الضحايا منظمات حقوق إنسان في الولايات المتحدة وأوروبا.
والدول الغربية، بسبب ما قلته بداية حول المسألة اليهودية ولأسباب أخرى عديدة، منها مصالحها المضمونة مع هذه الأنظمة الاستبدادية، وغير المضمونة، كما تعتقد، في حالة تطبيق الديمقراطية، تقبل بهذه المقايضة وتتكيف معها. وهنا يتجلى موقف الدول الغربية المنافق من قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية. فمن يقوم بالتطبيع مع إسرائيل يتلقى إطراءات وتشجيعًا حتى وهو يعتقل المعارضين، ويقمع حرية الرأي، ويحجب الحريات العامّة، ويدوس الحقوق المدنية.
لكنّ إسرائيل لا تكتفي. فهي لا تشبع من التنازلات، ولا تروي ظمأها إلى الاعتراف والشرعية العربية؛ ولا تثق بحليف عربي؛ لأنها أكثر من يدرك ما اقترفته أيديها، وكونها جسمًا استيطانيًا غريبًا في هذه المنطقة. فكلما قُدم لها شيء طالبت بالمزيد، إنها لا تقبل بأقل من العمالة لها. إنها لا تقبل بحلفاء ولا تُحارب عن الأنظمة العربية، بل تريد أتباعًا لها في المنطقة.
وتجربة مبادرة السلام العربية ورفض إسرائيل لها ومطالبتها بالمزيد؛ وتحوّل بعض القادة العرب إلى رهينة إرضاء إسرائيل يبيّنان ذلك. لقد تبنّى ولي العهد السعودي “كليشيه” رائجًا في الدعاية الصهيونية صاغه أبا إيبان يتمثل بـ “أن العرب لم يفوتوا فرصة لتفويت الفرص”، وأضاف ما لم يقله وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق الشهير إن على الفلسطينيين أن يقبلوا ما تعرضه عليهم الولايات المتحدة أو يخرسوا؛ ولم يجرؤ على إدانة نقل السفارة إلى القدس حتى حينما سئل عن ذلك مباشرة[5]؛ يتلقى ولي العهد السعودي المدائح الآن، فما زال لديه ما يقدمه لإسرائيل باسم بلاد الحرمين. أما في حالة قادة منظمة التحرير الفلسطينية الذين قدموا كل ما قدّموه لإسرائيل، فما زالت إسرائيل تتهمهم بالتطرف (وحتى العداء للسامية مؤخرًا) كلما خالفوها الرأي، وإن فعلوا ذلك بخجل، مع تأكيد أنهم لن يخرجوا عن الاتفاقيات، ولن يعملوا على الساحة الدولية إلا في إطارها.
تتدهور السياسة الإسرائيلية أكثر فأكثر نحو اليمين واليمين الديني واثقةً بصحة منطق القوة في التعامل مع العرب، وتتشكل فيها حكومات يكاد المستوطنون المتطرفون يسيطرون عليها. إنها تدعي أنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام بعد كل التنازلات التي قدمت لها، وتهدد باستبدال القيادة بقيادات فلسطينية جديدة تكون أكثر “اعتدالًا”. وهي تفعل ذلك على الرغم من حاجتها إلى السلطة في جميع الظروف، لأن الأخيرة أثبتت نجاحها أمنيًا؛ أي في حفظ أمن إسرائيل. ولكنها تدرك حجم الصراع على السلطة حتى ذلك المموّه ببلاغة أيديولوجية، ومدى تمسّك الأفراد بها، وفاعلية تهديدهم بفقدانها.
يقودني هذا الكلام إلى أحوال السلطة الفلسطينية وفلسطين.
عودة إلى مسألة المشروع الوطني الفلسطيني
لقد قلنا ما يجب قوله وأكثر في الماضي في تبيين الخطأ التاريخي الذي ارتُكب بقبول اتفاقيات أوسلو بعد التغيّر الذي وقع في النظام العربي بعد غزو العراق الكويت، والتغيّر في النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكنّ هذا لا يمنع من تأكيد نقاط أساسية لكي نواصل التحليل، وليس شماتةً ولا بنبرة “قلنا لكم!”.
ثمة أربع خلاصات من اتفاقيات أوسلو والقاهرة بموجب أي تحليل موضوعي استندنا إليه في معارضة الاتفاقيات، وأصبح حتى مؤيدو اتفاق أوسلو يعترفون بجلّها:
- مقايضة الاعتراف الإسرائيلي بمنظمة التحرير بقبول التفاوض المباشر بين المحتل والواقع تحت الاحتلال من دون أسس ملزمة ومرجعيات دولية مع الالتزام بالاستغناء عن النضال ضد الاحتلال، والتحول إلى رهينة لموازين القوى مع إسرائيل.
- استخدام شرعية منظمة التحرير مثل ملكة النحل للتلاقح وإنجاز الاتفاق ومن ثم الاستغناء عنها، وتهميش حركة التحرر الوطني الفلسطيني واستبدالها بسلطة وليس بدولة.
- تتلخص مهمات السلطة، بحسب الاتفاقيات منذ أوسلو، في الحفاظ على الأمن، والمقصود أمن إسرائيل، وإدارة شؤون السكان للتخلص من العبء الديموغرافي، بأقل تكلفة، ومن دون السيادة على الأرض، والمقصود جزء يقل عن نصف أرض الضفة الغربية وقطاع غزة.
- أخيرًا، إن وجود سلطة يعني الصراع على السلطة، وكلّ ذلك من دون دولة. وهذا العنصر الأخير تحوّل إلى عنصر رئيس في السلوك الفلسطيني السياسي؛ فجلّ الجهود الفلسطينية حاليًّا تُستنزف في الصراع الفلسطيني – الفلسطيني على السلطة من دون دولة. وأصبح هذا الصراع على السلطة المحرك حتى لبعض الخطوات المتعلقة بالموقف من إسرائيل، أي إنّه حلّ إلى حدّ بعيد محل الصراع مع إسرائيل.
- ولا شك في أن ثمة جوانب إيجابية لازمة لتطور نجم عنه نشوء سلطة فلسطينية حتى لو كان موقفنا من الاتفاق سلبيًا، لا سيما أنه يشمل عودة قيادات فلسطينية إلى أرض الوطن، أهمها عملية بناء مؤسسات وطنية في الضفة والقطاع على نطاق واسع، مع التحفظ على أنها لا تشمل الشعب الفلسطيني كله.
في العموم، تفاوض حركة التحرر الوطني بعد أن يقبل المحتل مبدأ الانسحاب، وتُقيم سلطة بعد الانسحاب لتدير دولة، أما في حالة فلسطين فبدأت التفاوض قبل الاتفاق على مبدأ الانسحاب ووافقت قيادة منظمة التحرير على إدارة سلطة من دون دولة.
فكان من الطبيعي أن تصل مفاوضات ما يسمى بالحل الدائم إلى طريق مسدود. وإزاء التخلي عن المقاومة من طرف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في رام الله، وتحوّل المقاومة في غزة المحاصرة إلى حالة دفاع عن النفس ضد أي عدوان مقبل، وليس إستراتيجية تحرير، ليس مستغربًا أن يتحدث كل فلسطيني عن أزمة ومأزق.
وقد عقدنا نحن في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمرات حول موضوع المشروع الوطني الفلسطيني، وأثرنا موضوعًا أعتقد أنّه جاء في وقته وزمانه، ولذلك شهد انتشارًا واسعًا منذ أن أثرناه، وهو موضوع المشروع الوطني الفلسطيني، وسألنا: هل هو مشروع سلطة أصبحت سلطتين، أم مشروع دولة في الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس؟ ويترتب عليه أسئلة كثيرة، مثل: لماذا لا يقال كلام صريح بشأن اللاجئين الفلسطينيين في هذه الحالة؟ ولماذا لا تُعنى منظمة التحرير بمصير الإنسان الفلسطيني في سورية ولبنان؟ وهل هو جزء من المشروع الفلسطيني، رغم أنّ السلطة الفلسطينية تُعلن يوميًّا أنّ مشروعها هو دولة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس في حدود عام 1967؟
يحتار المواطن الفلسطيني لأسباب وجيهة؛ أهمّها أمورٌ يعرفها العالم أجمع، حتى جون كيري في خطابه الوداعي في كانون الأول/ ديسمبر 2016، تتمثل بأنّ الاستيطان المتواصل ينفي إمكانية الانسحاب إلى حدود 1967[6]، وأنّه في المقابل لم تُطرح آلية لمقاومة الاستيطان سوى المفاوضات (أو مقاطعتها)، وهي أصلًا معطلة. ويتلخص منطق المفاوضات في أن الفلسطينيين يطالبون والإسرائيليين يقولون “لا!!”؛ وبهذا ينتهي الأمر. ليس لدى الفلسطينيين وسيلة في إطار اتفاقيات السلام تُجبر إسرائيل على فعل شيء. والوساطة الأميركية مصيرها معروف، فهي لم تعن في يوم من الأيام الضغط عليها، ولا يمكن أن تعني ذلك. كما أنّ المواقف الأميركية تشهدُ تغيرًا وتآكلًا مع كلِّ انتخابات أميركية ينتظر نتائجها العرب والفلسطينيون أكثر ممّا ينتظرها أي شعب آخر. خذ مثلًا موقف دونالد ترامب رئيسًا والذي تراجع عن مواقف أميركية رسمية أصبحت تقليدية، فهو لم يعد يعبّر عن موقف ضد الاستيطان، ولا عن دعم لحل الدولتين ويوافق على أي حل يقبل به الطرفان، ما يمنح حكومة إسرائيل حق الفيتو عمليًا[7]. بهذا لم تخرج السلطة الولايات المتحدة من احتكار الوساطة، بل أخرجت نفسها قبل قرار نقل السفارة إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. وهو تراجع ثالث عن المواقف الأميركية الرسمية.
كما يرى الفلسطيني أنّ الموضوع الرئيس الذي يشغل قياداته السياسية هو الصراع الفلسطيني – الفلسطيني الذي وصل إلى درجاتٍ لم نتخيلها في السابق، مثل أن نجد أنفسنا نطالب برفع العقوبات الفلسطينية عن قطاع غزة.
إنّ المأزق الموصوف المذكور آنفًا والانشغال الفلسطيني – الفلسطيني بالصراع الداخلي بين الفصائل هما من أهم أسباب بحث طاقات المقاومة عند الجيل الشاب الفلسطيني عن تعبيرات عنها على شكل عمليات فردية عنيفة بالسكاكين، وغيرها، ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، ومبادرات لا تُعد ولا تُحصى، ونقاش لا ينتهي: حل الدولة أم حل الدولتين، مع أنه لا يوجد في الواقع سوى دولة واحدة لم تعد تكتفي بالاعتراف بها، بل تطالب بالاعتراف بها دولة يهودية، وسلطتين فلسطينيتين فاقدتين للسيادة، إحداهما محاصرة حصارًا يُنهك مجتمعها بالكامل منذ أكثر من عقد.
والمفارقة التاريخية هي وقوع هذا الانسداد في مرحلة نشوء إجماع دولي على حل الدولتين في فلسطين. وهو إجماع لا يتضمن أي آلية لفرضه على إسرائيل. كما أن القيادة الفلسطينية لا تتبنى موقفًا نضاليًا مثابرًا في استثماره على الساحة الدولية لأسباب عديدة؛ أهمها تجنب الدخول في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، ولا حتى على ساحة المؤسسات الدولية.
وأثارت حركة المقاطعة الشاملة لإسرائيل أملًا بين الشباب يعززه غضب إسرائيل والولايات المتحدة من هذا النشاط. ونشاطها بالطبع محدود في الداخل، حيث النضال المباشر ضد الاحتلال يفوقها أهمية، إذ لا يمكن أن تكون دعوتها إلى المقاطعة مثابرة في الداخل فتشمل، مثلًا، مقاطعة المطبّع الفلسطيني الذي ينسق أمنيًا مع إسرائيل. ولكنها تقوم بدور إيجابي وفاعل في الخارج، وذلك في الحفاظ على قضية فلسطين على جدول أعمال القوى الديمقراطية التي تبحث عن وسيلة للتضامن مع فلسطين؛ بوجود سلطة فلسطينية لا تريد التضامن، ولا تبحث عنه، والتسبب في ضرر معنوي لإسرائيل التي تخشى أن يتحوَّل إلى ضرر مادي حقيقي مؤثر في القرار السياسي. وهذا ليس ممكنًا إذا لم تتبنّاه دول، مثلما حصل في حالة جنوب أفريقيا، حين تبلور إجماع دولي ضد النظام العنصري هناك. بيد أننا نشهد مجاهرة دول عربية بالتطبيع مع إسرائيل، حتى من دون أي تقدم يذكر في المفاوضات، فهل يمكن أن تتبنى مقاطعة إسرائيل دولٌ غير عربية؟ ثمة تحالفات إسرائيلية جديدة تنشأ في آسيا وأفريقيا وأوروبا الشرقية ودول الخليج العربي، للأسف، هذا عدا الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية معها. والأدهى والأمرّ من ذلك أن السلطة الفلسطينية لا تكتفي بعدم المقاطعة، بل إنها لا تتبنى إستراتيجية الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل حتى في الخارج، ويقتصر موقفها على الدعوة إلى مقاطعة منتجات المستوطنات في أوروبا. فهي تأخذ اتفاق السلام مع إسرائيل بجدية تامة.
الفلسطينيون شعبًا ومؤسساتٍ مدنية مقصون عن عملية صنع القرار، وهم يحاولون اقتحام العمل السياسي بمبادرات مثل حملات المقاطعة وغيرها. وقد جرى التفريط في المأسسة التي أُنجزت سابقًا لكيان هذا الشعب على مستوى اتحادات العمال والطلاب والمرأة. ولا شكّ في أنّ لبعض الفصائل (وليس كلها) قواعد فاعلة لكنها بعيدة عن أن تشمل كل الشعب الفلسطيني.
لم أعتقد في الماضي أنّ الوحدة بين فتح وحماس ممكن أن تبدأ على مستوى السلطة الفلسطينية. وكان رأيي أنّ الوحدة يجب أن تبدأ من منظمة التحرير. لكن، جرى مرّة أخرى إجهاض هذه العملية بعقد مجلس وطني في رام الله. ولم يكلف الداعون له أنفسهم حتى عناء عقدِه في مكان متاح للجميع، لإحراج من لا يرغب في الحضور.
ويبدو أنّه يجب أن تخرج مبادرات جديدة في هذا الشأن على مستوى تنظيم الشعب الفلسطيني في كافّة مناطق وجوده، من أجل إعادة بناء حركة التحرّر الوطني الفلسطيني. وهي السبيل الوحيدة للتغلّب على المحاولات العربيّة للتخفّف من قضية فلسطين، والمحاولات الغربية لاختزالها في سلطة في الضفة الغربية، بحيث تقتصر المهمة على التفاهم معها على كيفية تمويلها وضمان استمراريتها حتى لو توقفت عن التفاوض بسبب مواصلة الاستيطان. فمن المهم في نظرها الحفاظ على السلطة بأي ثمن لأنّها ضمان ضدّ “الفوضى” التي تُمثّل خطرًا على أمن إسرائيل.
ما يُبنى ويترسّخ في فلسطين التاريخية هو نظام أبارتهايد (فصل عنصري بمنظومتين حقوقيتين تحت السيادة الإسرائيلية نفسها). وهو أبارتهايد استيطاني إحلالي. وسبق أن عالجنا ذلك وبيّنّاه. ويعتبر رئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو أن قانون القومية اليهودية الذي يسنّ حاليًا هو من أهم منجزاته التشريعية، إذ إن القانون يصوغ مبدأ إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، وليس فقط دولة يهودية، وأن وظائفها الرئيسة مشتقة من ذلك؛ لإزالة أي لبس بشأن أولويتها على المواطنة والديمقراطية، وغيرهما. يسَنُّ هذا القانون خصيصًا في مواجهة مشروع دولة المواطنين من جهة، وليصبح حق العودة الفلسطيني متناقضًا مع الدستور الإسرائيلي، فالقانون هو قانون دستوري، أو كما يسمى في إسرائيل “قانون أساس” Basic Law.
إن لهذا الاستعمار الاستيطاني مميزات خاصة؛ فهو في جنوب أفريقيا وفلسطين فهم ذاته كحركة قومية ذات طابع ديني أو ذات جوهر ديني وطابع علماني بدرجات متفاوتة. وهو خلافًا للاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر ليس يتبع دولةً “أُم” ينسحب إليها؛ كما أنه بنى على الأرض دولة ومؤسسات أكثر مما بنته الدول العربية والأفريقية المحيطة. ومن هنا ينتهي الصراع معه إلى تسوية تاريخية كما حصل في جنوب أفريقيا. ويفترض أن يهدف النضال في فلسطين إلى أن تكون هذه التسوية التاريخية عادلة؛ بمعنى أن تضمن حقوق الشعب الضحية. من دون ذلك لا تصفى المسألة الكولونيالية. وكل ما عدا ذلك هو إفراط أو تفريط.
ولا يمكن مواجهة هذا الوضع بتخيّل السلطة الفلسطينية دولة في حالة نزاع حدودي مع إسرائيل مثل سورية ومصر قبل كامب ديفيد؛ فأولًا هي ليست دولة. وثانيًا هي ليست في حالة صراع مع الصهيونية، بل وقّعت اتفاق سلام تضمن فيه أمن إسرائيل. وثالثًا، ليست السلطة أداة صراع مع إسرائيل ولا أداة تحشيد معنوي للشعب الفلسطيني أو تحشيد لأصدقائه في الغرب والشرق. فشرعية القضية الفلسطينية مكتسبة من شرعية التحرر الوطني في ظل مسألة كولونيالية غير محلولة حتى اليوم. والامتحان هو طرح القضية الفلسطينية بوصفها قضية وطنية وقضية عدالة، لكن أخذًا في الاعتبار المسألتين اللتين تتشابك معهما؛ وهما المسألة اليهودية والمسألة العربية. فالنضال ضد الأبارتهايد يتطلب برنامجًا وطنيًا ديمقراطيًّا يخاطب جميع سكان فلسطين واللاجئين الفلسطينيين؛ في حين أن الطابع الحالي للسلطتين الفلسطينيتين في الضفة الغربية وقطاع غزة هو طابع سلطة تقوم على أجهزة أمنية بالأساس، المكون الرئيس فيها هو الجهاز الأمني، ما يكبح طاقات الشعب الفلسطيني في الداخل، ويمنع تفاعله مع المجال السياسي.
المقاومة المدنية إستراتيجية مهمة خبرناها جيدًا في الانتفاضة الأولى، ولكن حتى المقاومة المدنية طرحتها السلطة شعارًا ضد الكفاح المسلح وليس لبناء مقاومة مدنية فعلًا بشكلٍ يتجاوز التنفيس في الأزمات والسماح للناس بالتظاهر على الحواجز في حالات محددة. المقاومة المدنية إستراتيجية نضالية ضد الاحتلال، إنها مقاومة سلمية منهجية ومثابرة ذات أهداف مرحلية مطلبية وأخرى تتعلق بتفكيك نظام السيطرة الكولونيالي كلّه.
أعلم أن بعضكم سيسألني: ما الحل؟ وأنا أشجعكم على هذا السؤال، ولكن مع الأخذ في الاعتبار تجنّب النقاش عن الحلول الجاهزة. وتنتج هذه من مقاربتين متطرفتين: تتمثل الأولى بطرح حلول بناء على معطيات وظروف ثابتة استاتيكية، بحيث لا تأخذ عامل الإرادة البشرية المتمثل بالنضال بعين الاعتبار. وتتمثل الثانية بطرح حلول مثالية لا تأخذ أي ظروف بعين الاعتبار.
ليست لديّ حلول من دون تغيير الظروف، أي من دون نضال. فماذا تعني كلمة “حل” في ظروف صراع سلطتين فلسطينيتين؟ وكيف يمكن طرح حلول سياسية من دون قوى سياسية نضالية جاهزة لتحويلها إلى برنامج سياسي؟ ولهذا، ومع أن الدولة الواحدة ثنائية القومية طرحت عدة مرات في القرن الأخير، وقد كتبت مقالات نؤيدها منذ أكثر من عقدين ربما، قبلت بالنضال لإزالة الاحتلال عن الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس بوصفه مشروع حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ولكن لم أكتفِ بذلك بل طرحت إضافة إليه برنامج دولة المواطنين في مواجهة واقع الدولة اليهودية ودولة اليهود وفكرهما، أي ضد الصهيونية؛ إلا أني أعتبر النقاش الجاري حاليًا حول دولة واحدة أو دولتين ليس نقاشًا على برامج سياسية، بل أراه نقاشًا أكاديميًا يجري ضمن المأزق الراهن ولا يتجاوزه.
في الواقع السياسي، لا يؤدي فشل فكرة إلى صعود فكرة أخرى أكثر عدالة من الأولى. إن بديل حل الدولتين في الواقع الحالي هو ليس حلًا بالضرورة، إنه واقع سياسي يتمثل باستمرار الاستيطان وضم أجزاء من المنطقة (ج) إلى إسرائيل، والحفاظ على سلطة منقوصة السيادة في الضفة وأخرى محاصرة في غزة. أما الدولة الواحدة، فلكي تصبح بديلًا لحل الدولتين، لا بد أن تصبح مطلبًا لمجمل حركة التحرر الوطني الفلسطيني (بعد إعادة تنظيمها فهي مختزلة حاليًا في سلطتين) وذلك في إطار طرحها برنامجًا ديمقراطيًا يقنع أيضًا جزءًا معتبرًا من المجتمع اليهودي، ويقتنع به جزء كبير من الرأي العام العربي والعالمي. فقد احتاج الأمر إلى عقود طويلة كي يصبح حل الدولتين مقبولًا. فهل ثمة مشروع كهذا؟ لا أرى ذلك حاليًا.
في ظل هذه المعطيات، ومع توافر الإرادة للنضال يجب أن تتركز الجهود في مواجهة الصهيونية على محورَي قضية الأرض (الاحتلال، والاستيطان، وتهويد القدس، وغيرها) وقضايا العنصرية التي تضع النضال في مواجهة نظام الفصل العنصري، وأن يقوم بذلك كلٌ من موقعه، وأن تصاغ طروحات المناضلين ضد الاحتلال والعنصرية بلغة العدالة والتحرر الوطني والديمقراطية وحقوق الإنسان في كل مكان؛ فلم يعد ممكنًا، ولا مقبولًا، أن تصاغ قضية الشعب الفلسطيني بغير هذه اللغة. ولا يقل أهمية عن ذلك التنسيق بين ساحات المواجهة المختلفة، لتجاوز التشتت، وللتجند المشترك في القضايا السياسية، مثلًا للضغط من أجل المصالحة وإعادة بناء منظمة التحرير، وللحيلولة دون التنازل عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وفي مقاومة التطبيع. وفي هذه الأثناء، من المهم بناء المؤسسات الحديثة التي تؤطر كيان هذا الشعب.
جرائم الأنظمة العربية خلال تدمير البلدان للحفاظ على الحكام كثيرة، وليس أقلها أهمية مقاربة القمع الإسرائيلي من منظور المقارنات في الوعي الشعبي، وإذا أضيف إلى ذلك فوضى الحركات التكفيرية، وردود الفعل الغاضبة التي أثارتها على الساحتين العربية والدولية، وكذلك صعود الشعبوية السياسية في الغرب، والذي توَّجَه وصول ترامب إلى البيت الأبيض، نفهم جانبًا مهمًا من تعقيدات المرحلة بالنسبة إلى فلسطين. لكن هذه التعقيدات وآثارها لن تدوم، وليس ذلك بخافٍ على أولي الألباب.
===========================
[1] انظر أجواء زيارة رئيس الحكومة الهندي ناريندرا مودي تل أبيب: محمد محسن وتد، “إسرائيل والهند.. تحالف يضعف القضية الفلسطينية”، الجزيرة نت، 7/7/2017، شوهد في 8/5/2018: https://bit.ly/2jN5A9r؛ وانظر:
Amit Baruah, “India may end support to Palestine at U.N.,” The Hindu, December 21, 2014, accessed on 8/5/2018 at: https://goo.gl/p6tZRK; Suhasini Haidar, “We waited 70 years, Bibi tells Modi,” The Hindu, July 4, 2017, accessed on 8/5/2018: https://goo.gl/TR5DK3
[2] انظر: “المؤشر العربي 2017/ 2018: التقرير الكامل”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 9/5/2018، شوهد في 11/5/2018، في: https://goo.gl/QVjZh1
[3] Jeffrey Goldberg, “Saudi Crown Prince: Iran’s Supreme Leader ‘Makes Hitler Look Good’,” The Atlantic, April 2, 2018, accessed on 9/5/2018: https://theatln.tc/2q4EkH5
[4] Ethan Bronner, “Israel Holds Peace Talks With Syria,” The New York Times, May 22, 2008, accessed on 11/5/2018: https://nyti.ms/2rCt2dI; Peter Walker, “Syria and Israel officially confirm peace talks,” The Guardian, May 21, 2008, accessed on 11/5/2018: https://bit.ly/2IkJRju
[5] “بن سلمان: القضية الفلسطينية ليست على رأس أولويات السعودية”، العربي الجديد، 29/4/2018، شوهد في 9/5/2018، في:
وانظر:
“Palestinians must make peace or shut up, Saudi crown prince said to tell US Jews,” The Times of Israel, April 29, 2018, accessed on 9/5/2018: https://bit.ly/2rcPTfG
[6] John Kerry, “Remarks on Middle East Peace,” U.S. Department of State, December 28, 2016, accessed on 8/5/2018 at: https://bit.ly/2DxK696; David E. Sanger, “Kerry Rebukes Israel, Calling Settlements a Threat to Peace,” The New York Times, December 28, 2016, accessed on 8/5/2018 at: https://nyti.ms/2jUhApG
[7] “Donald Trump says US not committed to two-state Israel-Palestine solution,” The Guardian, February 16, 2017, accessed on 9/5/2018 at: https://bit.ly/2kAxLpN
- نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور عزمي بشارة ضمن أعمال اليوم الأول (السبت 12 أيار/ مايو 2018) للمؤتمر الخامس للدراسات التاريخية “سبعون عامًا على نكبة فلسطين: الذاكرة والتاريخ” الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة.
عذراً التعليقات مغلقة