إن من أكثر الأمراض الاجتماعية والنفسية التي عانى منها السوريون بل والعرب في وقتنا الحالي، خاصة بعد تفجر ثورات الربيع العربي، هي الموجات والبروبغاندا الإعلامية والدعائية بأساليبها المختلفة، التي طالت رموزًا وتيارات سياسية واجتماعية وعسكرية كبيرة. تحولت تلك الموجات إلى حرب أوقد فتيلها أبناء الوطن قبل أعدائهم، خاصة الجهلة من العوام والغوغائيون بقصد أو دون قصد. فتتناثر الاتهامات الكاذبة والشائعات المغلوطة، وكذا تُؤول الأفعال والأقوال، وتفسر في غير سياقها من غير علم ولا هدى ولا كتاب مبين.
أدت هذه الظاهرة المجتمعية المَرضية لانعكاسات كبيرة وتأثيرات واضحة في مسارات الثورة السورية بشكل خاص. فمنذ بدايتها، ومع مرور الشهور الأولى، بدأت عوارضها تظهر، فقد شن النظام السوري حملة دعائية إعلامية وساعده في ذلك النظام العالمي المتآمر على الثورة اليتيمة عبر أدواته الإعلامية وقواته الإلكترونية في وسائل الإعلام وشبكات شبكات التواصل الافتراضي ينال من أبناء الثورة والمعارضة داخل سورية وخارجها، واستهدف شخصياتها الرئيسية والفاعلة، لتفتيت الحاضنة الشعبية، وزعزعة قاعدتها، وضرب ثقة الشعب بممثليه ورموزه. وإن كنا لا نستغرب ذلك من عدو الثورة الأول وهو نظام الأسد إلا أن المشكلة والمعوق الأكبر واجهناه من قبل رجالات الطابور الخامس المحسوبين على الثورة اسمًا دون صفة. يتألف هذا الطابور من الغوغاء والجهلة والأبواق المصنفة والمتحزبة خاصة الحاضنة للمشروع القاعدي والرماديين والنفعيين، ومن التحقوا بالثورة حين لم يبقى خيارًا آخر، وركبوا موجتها فصاروا فيما بعد أولى موجات الثورة المضادة المدعومة من قبل بعض الأنظمة العربية المجاورة.
وقد أخذت حملة الدعاية المغرضة والتشويه ضد رجال الثورة ورموزها مراحل وأشكال عدة:
ففي بداية الثورة المباركة وتحديدًا في العام الأول منها بين عامي 2011 /2012، كان أولى ضحاياها التنسيقيات ومجالس قيادة الثورة المحلية، والتي كانت مولود الثورة النقي الذي ولد من رحمها الطاهر فتبنى أهدافها الحقيقية ومطالب الشعب الثائر بغير زيادة ولا نقصان فشكك بأمانتهم وعمل على إسقاط شرعيتهم وكانت الاتهامات المعروفة الرائجة، والبروبغاندا الفارغة المعتادة بأنهم “.. حرامية.. متسلقين ومهادنين”.
هذا على مستوى الرموز في الداخل، أما خارجيًا، فقد استهدف المجلس الوطني الذي كان أول جسم موحد يمثل أطياف المعارضة السورية، والذي اكتسب شرعية كبيرة بين أبناء الثورة والمتظاهرين الذين سموا أحد جمعهم بـ “المجلس الوطني يمثلنا..”. ومنذ البداية، هوجمت شخصياته المعارضة المشهود لها بوطنيتها ومعارضتها للنظام قبل الثورة بعقود، ممن كانوا من ضحايا السجون والنفي والتضحية بالمال والنفس معًا.
أما المرحلة الثانية: تمتد بين عامي 2013/2015، فكانت في سياق الترويج للمشروع الظلامي المتأسلم الذي يمثله تنظيم الدولة “داعش” وجبهة النصرة والجماعات اللاوطنية وغيرها. وسعوا لضرب سمعة الجيش السوري الحر، الذي كان رمز المقاومة المسلحة المشروعة للشعب الأعزل والمتكون من أبنائه وأحرار الضباط والعساكر المنشقين والذين رفضوا همجية النظام واختياره للحل الأمني، واستخدام البطش والعنف، ووقفوا مع أبناء شعبهم، ودافعوا عن المتظاهرين السلميين ضد شبيحة النظام السوري ومخابراته. وقد كان من المعلوم أن الجيش السوري الحر هو اسم وصفة عامة انتحلها كل من تسلح في تلك الفترة من أبناء الشعب بصالحهم وطالحهم، بأخيارهم وأشرارهم، فعممت الحالات والأخطاء الفردية وكيلت الاتهامات المتعددة والمختلفة وأبرزها “حرامية مازوت.. قطاع طرق وجيش التصوير لا التحرير.. ومعفشي البيوت.. ناهبي المصانع والمعامل …الخ”. والهدف من ذلك كله هو تطييف الصراع في سورية، وتحويله إلى حرب أهلية، وتثبيت تهمة الإرهاب على الثوار، وتحييد الثورة عن مسارها فتضعفها داخليًا من خلال تمزيق وحدة الصف الشعبي وخارجيًا على المستوى الدولي، بإعطاء المبرر لنزع الدعم وإيقافه، ومن ثم دعم نظام الأسد تحت غطاء التحالف الدولي وتدمير مراكز وحواضن الثورة بحجة القضاء على الإرهابيين.
إذًا، كان أبرز عناصر هذه الحملة التشويهية بحق رموز الثورة وشخصياتها هم الجيش والذباب الإلكتروني من أتباع التيارات التكفيرية المتعددة والموجه بعضها من قبل أجهزة مخابرات دولية وأغلبها معاد لثورة التحرر والربيع العربي. فالجهات التي عملت على إسقاط رموز الثورة السورية هي عناصر لا ثورية ديدنها التخوين والتكفير والاتهام بالردة والعمالة وإصدار الفتاوى الباطلة لكل قادة وفصائل الجيش الحر، فبرروا القضاء عليها واستعمال السلاح ضدها فيما بعد؛ كحركة حزم وألوية شهداء سورية، وثم لواء عاصفة شمال وجيش التوحيد. وقد كانت فصائل الغوطة وبالأخص جيش الإسلام من أكثر الفصائل التي تعرضت لحملات التشويه والاتهام تلك حتى في يوم خروجهم من الغوطة وقد قتل جل قادتهم الكبار، ذلك الجيش الذي حمى الغوطة مع كتائب أخرى عدة سنوات إلى أن أسقطه أنصار الثورة المضادة قبل النظام وحلفائه.
أما العنصر التشويهي الثاني، فهو بعض القنوات الإعلامية المسيسة المعادية للربيع العربي التي تعمدت تغييب ذكر مصطلح الجيش السوري الحر أو الثوار، واستبدلته بمصطلح المعارضة المسلحة ليس هذا فحسب، بل أضفت على الثورة الشعبية صفة الحرب الأهلية ونسبت الانتصارات والعمليات العسكرية إلى فصائل القاعدة وخصوصًا القاعدة (هيئة تحرير الشام فيما بعد )، وعظمت من شأن قادة هذا التيار، ورموزه وعرابيه ومنظريه، وأكثرت من ذكرهم وكأنهم أبطال الثورة وحماتها، فضلًا عن ذلك التجاهل والتقليل من شأن المعارضة السياسية، واضعاف مؤسسات الثورة وشخصياتها.
أما العنصر الثالث فكان من المنابر الغوغائية المأجورة والمنتفعة من النظام وتيار القاعدة وبعض رجال الدين الذين ركبوا سفينة السواد، الذين أظهروا الثورة كما أرادوا لا كما أراد أهلها فتحولت إلى جدالات وخصومات ونزاعات أهلية وداخلية عميقة.
أما المرحلة الأخيرة بين عامي 2016/2018، فإنها بدأت بضرب مساعي الثورة داخليًا وخارجيًا والتقليل من أهمية إنجازات الثوار تحركوا أم لم يتحركوا قبلوا أو رفضوا.. هيئات التفاوض والمعارضة ومؤتمرات استانة وسوتشي مثالًا بغض النظر عن صحة أو عدم صحة تلك المسلكيات التي فرضتها الحالة السياسية العامة فرضًا، كما ويأتي ضمن هذه المرحلة حملات التشويه المسيرة من قبل أمراء الحرب في الداخل السوري، ممن تصدروا الساحة يفتون ويقتلون ويعتقلون متى يشاءون، وكما يريدون.
وفي النهاية لابد من أن نختم بذكر العامل الأبرز في انتشار هذه الظاهرة ألا وهو الجهل والنفاق، وأزمة انهيار منظومة الوعي والأخلاق التي أثبتتها الوقائع والأحداث الجارية، وظهرت وطفت إلى السطح بعد مرور بعد سنوات على انطلاق الثورة. وإن نشر ثقافة التحقق قبل التشدق والاستناد إلى محاكمات عقلية منطقية تأخذ بمعايير موضوعية واقعية محايدة، والعمل بمقتضى قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين..” هو الطريق الأنفع والحل الأنجع لتجاوز تلك الظاهرة العقيمة، والتقليل من آثارها على ما تبقى من مناطق للثورة وأهلها، علنا نصل إلى حرية أردناها وضحينا لأجلها بفلذات أكبادنا، وفقدنا مهج أرواحنا بل وكل مقدراتنا.
عذراً التعليقات مغلقة