وجّهت دول التحالف الثلاثي (الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا)، فجر 14 نيسان/ أبريل 2018، ضربة استهدفت مواقع لقوات النظام السوري، في مناطق متفرقة حول العاصمة دمشق وريف مدينة حمص الجنوبي الغربي، شملت إطلاق أكثر من مئة صاروخ. ردًا على ما اعتبرته إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خرقًا جديدًا من قوات النظام السوري الخط الأحمر المتمثل باستخدام أسلحة كيميائية في حربها على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
كيميائي دوما
بدأت الأزمة الجديدة عندما نشرت مواقع معارضة صور ومقاطع فيديو تظهر مدنيين، أكثرهم من الأطفال، موتى أو يصارعون الموت نتيجة اختناقات وصعوبات شديدة في التنفس لدى محاولة إنقاذهم، فيما بدا هجومًا كيميائيًا جديدًا شنته قوات النظام السوري، صباح يوم السبت 7 نيسان/ أبريل 2018، على مدينة دوما التي كانت تستعد، في الأثناء، لبدء تنفيذ عملية إخلاء مقاتلي “جيش الإسلام” وعائلاتهم بموجب الاتفاق الذي توصل إليه الفصيل المعارض مع الجانب الروسي قبل ذلك بأيام. جاء الهجوم الكيميائي كأنه محاولة من النظام للضغط على المعارضة لاستعجال تنفيذ الاتفاق، وفي فرصة أخيرة لمعاقبة منطقة الغوطة المحيطة بدمشق، والتي تمردّت على النظام واستعصت عليه طوال هذه السنوات. أدى الهجوم إلى سقوط عشرت القتلى وإصابة مئات، بحسب تقارير طبية مختلفة، واستفز ردود فعل عالمية غاضبة على أحدث استخدام للغازات السامة ضد مناطق المعارضة في سورية.
ومع انتشار الصور، توعد الرئيس دونالد ترامب في تغريدة له على “توتير” بمعاقبة نظام الرئيس بشار الأسد، وقال إن إدارته سوف ترد على هذا الهجوم خلال فترة بين 24 و48 ساعة. وكان لافتًا هذه المرة اتفاق الدول الغربية على تحميل روسيا المسؤولية عن الهجوم؛ باعتبارها الضامن اتفاقية عام 2013 التي جرّدت النظام السوري من أسلحته الكيميائية عقب الهجوم الذي تعرّضت له الغوطة الشرقية في آب/ أغسطس 2013، وأدى حينها إلى مصرع أكثر من 800 مدني، في أكبر هجوم كيميائي يشهده الصراع في سورية. وقد حمل الرئيس ترامب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًّا مسؤولية الهجوم على دوما؛ نتيجة دعمه النظام السوري. كما ألقى وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، اللوم على روسيا؛ لأنها لم تف بالتزاماتها لضمان تخلي سورية عن أسلحتها الكيميائية. وجددت الولايات المتحدة جهودها في مجلس الأمن، التابع لمنظمة الأمم المتحدة، لإجراء تحقيق لتحديد المسؤول عن استخدام أسلحة كيميائية في سورية. ووزعت على الدول الأعضاء في المجلس نسخة محدثة من مشروع قرار لإجراء التحقيق، كانت قد طرحته في الأول من آذار/ مارس 2018، واعترضت عليه روسيا حينها. أما رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، فقد أعلنت أنّ النظام السوري وداعميه، وفي طليعتهم روسيا، “يجب أن يحاسبوا”، إذا ثبت وقوع هجوم كيميائي في دوما. وشنت فرنسا هجومًا حادًا على روسيا في مجلس الأمن، وقال سفيرها في الأمم المتحدة، فرنسوا ديلاتر، إن “الدعم العسكري الروسي والإيراني موجود على الأرض، وعلى جميع مستويات آلة الحرب السورية، وما من طائرة سورية تقلع من دون أن يتم إبلاغ الحليف الروسي”، مشددًا على أن الهجوم على دوما وقع بموافقة ضمنية أو صريحة من روسيا أو رغمًا عنها وعن وجودها.
واللافت للنظر أن أيًا من الدول التي هاجمت استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية لم تذكر الإبادة الجماعية بالأسلحة التقليدية، ولا التهجير الجماعي؛ كما لم يذكر أي منها ضرورة التخلص من نظام الأسد.
أدى اتفاق الدول الغربية على توجيه أصابع الاتهام إلى روسيا بتحميلها المسؤولية عن الهجوم الكيميائي إلى رفع مستوى التوتر بين الطرفين، وأسقطت روسيا مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن، الداعي إلى تشكيل لجنة تحقيق جديدة للبحث في استخدام الكيميائي، عبر استخدام حق النقض (الفيتو) للمرة الثانية عشرة منذ اندلاع الأزمة السورية، والمرة السادسة بشأن استخدام الكيميائي من جانب النظام. لكن روسيا فشلت في المقابل في الحصول على دعم كاف لقرارين مضادين، وزعتهما بديلًا من القرار الأميركي. وقد هدّدت روسيا على لسان سفيرها في لبنان بإسقاط الصواريخ الأميركية وضرب قواعد إطلاقها، إذا نفذت الولايات المتحدة تهديداتها بالهجوم على سورية، فرد الرئيس الأميركي بتغريدة على “توتير”، قال فيها “تهدد روسيا بإسقاط الصواريخ الأميركية ضد سورية، استعدّي روسيا، فالصواريخ قادمة، جميلة، جديدة وذكية، روسيا يجب أن لا تكوني شريكة مع الحيوان قاتل الغازات السامة، الذي يقتل شعبه بها ويستمتع بذلك”.
دوافع ترامب وحسابات البنتاغون
أوحت تغريدات الرئيس ترامب بوجود رغبة فعلية لدى الإدارة الأميركية في توجيه ضربة قوية إلى نظام الرئيس بشار الأسد، تضع حدًا نهائيًّا لاستخدام الغازات السامة في حربه ضد المناطق الثائرة على حكمه، وتشمل حتى داعمَيه الرئيسيَين، روسيا وإيران، لكن وزارة الدفاع الأميركية بدت أشدّ تحفظًا. وكان واضحًا اختلاف تقديرات البنتاغون عن تقديرات الرئيس في الشهادة التي أدلى بها وزير الدفاع، جيمس ماتيس، في 12 نيسان/ أبريل 2018، عندما قال أمام الكونغرس الأميركي إن “هجومًا كيميائيًا وقع في سورية، وأن أميركا تبحث عن دليل”، وتابع: “الولايات المتحدة تنتظر الأدلة على استخدام الأسلحة الكيميائية في دوما من جانب خبراء منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية”. وذهب إلى أن بلاده لا تريد أن تتدخل “في الحرب الأهلية في سورية”، وأن هدفها يبقى هزيمة تنظيم داعش؛ وهذا يعني أنها لا تتدخل لصالح هذا الطرف أو ذاك في ما اعتبره حربًا أهلية سورية.
وفي حين بدت ردود أفعال الرئيس ترامب على استخدام السلاح الكيميائي مجددًا من النظام السوري مدفوعةً بحسابات شخصية وانتخابية واضحة، كان رد فعل البنتاغون محددًا بحسابات إستراتيجية، ومخاوف من التورّط في مواجهة مع الإيرانيين والروس في سورية، إضافة إلى عدم الرغبة في التورّط في الصراع في سورية. ومع تعمق التحقيقات بخصوص التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، وتنامي الشكوك حول علاقاته بالرئيس بوتين الذي أصر ترامب على تهنئته بالفوز في انتخابات الرئاسة الروسية أخيرا، على الرغم من اعتراض مستشاريه، في ظل أزمة محاولة اغتيال العميل الروسي، سيرغي سكريبال، بمواد كيميائية في بريطانيا، وجد الرئيس ترامب في الهجوم الكيميائي على دوما فرصةً لإثبات عدم صحة المزاعم المرتبطة بعلاقته المشبوهة بروسيا، من خلال التصعيد الظاهري معها، ورفع سقف التوقعات بدعوته ليس إلى ضرب قوات النظام السوري فحسب، بل إلى استهداف القوات الروسية أيضًا. وهو في الحقيقة لم يكن ينوِ فعل أيٍّ من الأمرين. وعلاوة على ذلك، كان الرئيس يستجيب على المستوى الخطابي لضغوط قيادات الحزب الجمهوري التي كانت تطالب بمواقف أشدّ حزمًا تجاه روسيا وسياساتها العدوانية المتزايدة. وفي سنةٍ انتخابيةٍ حاسمة للكونغرس، وتزايد المؤشرات على احتمال خسارة الجمهوريين مجلس النواب، كان ترامب يستخدم معاناة السوريين لتعزيز حظوظ حزبه الانتخابية؛ ذلك أن خسارة الكونغرس تمثّل ضربة كبيرة للرئيس ترامب، في ظل دعوات من الديمقراطيين للبدء بإجراءات عزله؛ على خلفية التدخل الروسي الذي جاء لصالحه في انتخابات 2016.
وخلافًا للرئيس أوباما الذي تراجع عن تعهده بضرب النظام السوري، عندما استخدم الأخير السلاح الكيميائي، كان ترامب مسكونًا باعتقاده أنه رئيس حازم وقوي. وكان هذا الدافع تحديدًا هو ما دعاه إلى توجيه ضربة إلى مطار الشعيرات، في 7 نيسان/ أبريل 2017، وهي القاعدة التي انطلقت منها الطائرة التي نفذت الهجوم الكيميائي الشهير على بلدة خان شيخون في 4 نيسان/ أبريل 2017. من هنا، جاء إصراره على توجيه ضربة أكبر هذه المرة؛ على اعتبار أن ضربة عام 2017 لم تمنع النظام من معاودة استخدام السلاح الكيميائي.
أما البنتاغون، فكانت حساباته تقوم على اعتبارات إستراتيجية بحتة؛ فمع أنه كان يتفق مع الرئيس حول ضرورة توجيه ضربة عسكرية رادعة إلى النظام، حتى لا يغدو استخدام السلاح الكيميائي أمرًا اعتياديًّا، ومخافة انتشار استخدامه على نطاق عالمي، كما حصل في محاولة اغتيال العميل الروسي في سالزبوري في بريطانيا، فإن البنتاغون كان يقاوم، من جهة ثانية، الانجرار إلى مواجهة عسكرية مع روسيا أو حتى مع إيران، إذا ما تم توجيه ضربة قاسية إلى قوات النظام السوري، تمس حلفاءه أيضًا. وفي النهاية، بدا واضحًا أن مقاربة البنتاغون هي التي فرضت نفسها. وهي وجهة النظر الأقرب أيضًا إلى تفكير الحليفَيْن، بريطانيا وفرنسا.
لم تكن الإدارة الأميركية عمومًا راضية عن المسار الثلاثي لحل الأزمة السورية، والذي باشر بتقسيم سورية إلى مناطق خفض تصعيد من دون إيجاد حل، وإن لم تقاوم هذا المسار أو تحاول عرقلته وتعطيله. ولكن هذا التقارب الثلاثي، والذي يبدو أن الصين رغبت أخيرا في الانضمام إليه، لا يطمئن الإدارة الأميركية على نحو خاص؛ لا سيما أن الاجتماع المقبل سيكون في طهران.
ضربة استعراضية
منذ إعلان الرئيس الأميركي نيته الرد عسكريًّا على هجوم دوما الكيميائي، حصل النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون على الوقت اللازم لاتخاذ كل التدابير الممكنة للحد من الخسائر المترتبة على الهجوم الأميركي الوشيك؛ فأخلوا مقراتهم العسكرية المهمة، ونقلوا جزء من الأعتدة والطائرات إلى القواعد العسكرية الروسية لتأمينها من الضربة. كما أن هذه الضربة الثلاثية كانت مخططة بدقة ومحددة مكانًا وزمانًا؛ بحيث لا تخلف أضرارًا كبيرة في بنية النظام العسكرية، ولم تمسّ الهجمات الصاروخية أي أهداف روسية أو إيرانية، بل تركّز معظمها على مراكز الأبحاث ومقرات إنتاج السلاح الكيماوي للنظام السوري، فجرى استهداف مركز البحوث العلمية في برزة، التابع لوزارة الدفاع السورية، والذي يُعتقد أنه من المراكز التي تتم فيها عمليات تطوير السلاح الكيميائي السوري. إضافة إلى ذلك، استُهدف مطار المزة العسكري الذي يقع جنوب غربي العاصمة دمشق، ويحوي المقر الرئيس لقيادة الاستخبارات الجوية السورية. واستُهدفت مواقع عسكرية للنظام السوري في مناطق القلمون الشرقي، فضلًا عن استهداف “اللواء 105″، التابع للحرس الجمهوري قرب دمشق. كما شملت الهجمات الصاروخية مواقع عسكرية للنظام وحزب الله في ريف محافظة حمص الجنوبي الغربي في منطقة وادي خالد القريبة من الحدود اللبنانية. وكانت الأضرار محدودة كما يبدو، ولم يسقط ضحايا.
تداعيات الضربة
لا يمكن النظر إلى الضربة العسكرية التي استهدفت مواقع لقوات النظام السوري إلا على أنهاكانت استمرارًا لعوامل لا ترتبط مباشرة بأي مؤشراتٍ، تدل على تغير إستراتيجي في توجهات الإدارة الأميركية السياسية والعسكرية في سورية، وهي:
• عامل شخصي يتعلق برغبة الرئيس ترامب في رسم صورةٍ حازمةٍ عن إدارته للداخل الأميركي والخارج، يبرهن معها على ضعف رؤية إدارة أوباما السابقة التي تعاملت مع الملفات الخارجية بطريقة انكفائية من جهة، وفرصة يريد من خلالها ترامب أيضًا تبديد الشكوك بشأن وجود علاقة لإدارته بروسيا من جهة أخرى.
• عامل سياسي يتصل برغبة المؤسسة العسكرية الأميركية في إحراج روسيا، ومعاقبتها، وإظهار ضعفها وعجزها عن الرد، مع تجنب المخاطرة بدخول أي مواجهةٍ معها، مع استمرار التركيز على الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية وعدم الانجرار إلى الصراع السوري.
• عدم رضا أميركي عن المسار الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني لحل الأزمة السورية.
وعلى الرغم من أنه من غير المتوقع أن تؤثر الضربة التي جاءت رمزيةً واستعراضيةً إلى حد كبير في التطورات العسكرية والسياسية للصراع في سورية، بل قد تؤدي إلى ارتكاب مزيد من الانتهاكات من جانب النظام وحلفائه، في ضوء فهمهم أن الغرب لا يمانع استخدام هذا النظام كل أدوات القتل، باستثناء السلاح الكيميائي. وفي ضوء احتفاله الشاذ وغير المستحَق بعد الضربة التي لم تستهدفه على الإطلاق حتى يحتفل بنجاته منها، فإنه لا يمكن استبعاد حصول انخراط أميركي أكبر في المسألة السورية في الفترة المقبلة، سياسيًا أو عسكريًا. ويمكن تلمس مؤشرات هذا الانخراط في النقاشات التي دارت داخل الإدارة الأميركية بشأن إمكانية استهداف قواعد روسية وإيرانية في سورية، خصوصا مع انضمام مستشار الأمن القومي الجديد، جون بولتون، ووزير الخارجية الجديد، مايكل بومبيو، وهما من دعاة التصعيد مع إيران وروسيا. هذا إضافة إلى تزايد الطموح الإسرائيلي إلى أداء دور في الصراع الدائر داخل سورية، عبر المواجهة المباشرة مع الوجود الإيراني وتفرعاته؛ ما يزيد من تعقيد الصورة الإقليمية وانعكاسها على الساحة السورية. ولكنّ هذا سيكون موضوع تقدير موقف آخر.
عذراً التعليقات مغلقة