بعد كل مجزرة بالأسلحة الكيميائية يقترفها نظام الأسد بحق السوريين، ينبري معلقون، يبدو أنهم باتوا متخصصين بهذا الموضوع، بالسؤال عن المصلحة في استخدام الكيميائي، بذريعة أن النظام ينتصر ويحقق تقدماً على الأرض من دون واسطة الكيميائي، أو بذريعة أن النظام يعرف أن الضوء مسلط عليه، وبالتالي هو ليس من الحمق إلى درجة ارتكاب خطأ قاتل من وزن استخدام السلاح الكيميائي.
فات هؤلاء، هذا إذا اعتمدنا مبدأ حسن النية في تفسير مواقفهم، أن نظام الأسد، وأي طرفٍ يخوض معارك جارية، لا ينشر تقييماته العسكرية على الملأ، وبالطبع لا يذيع خططه وأساليبه العسكرية، وهذه تبقى من الأسرار الأمنية التي تحتاج وقتا طويلا للكشف عنها. ومعلوم أن نظام الأسد وداعميه الروس انخرطا في مفاوضات مع المقاتلين في دوما، ليس رغبة منهما في حقن الدماء، ولا تخفيض منسوب الدمار في الغوطة، وإنما لتقديرهم أن لدى مقاتلي دوما أوراق قوّة، ما هي؟ بالتأكيد لم يتم التحقّق منها، وبالتالي يصبح استخدام الكيماوي الوسيلة الأفضل لحل هذا المأزق.
إذا القضية تخضع بدرجةٍ كبيرةٍ لتقديرات ميدانية صرفة، كما أن لكل منطقة خصوصية معينة، ولا يمكن القياس على التقدم الذي حققه نظام الأسد في بقية مناطق الغوطة وتطبيقه على دوما، هذا إذا صدّقنا أن السيطرة على الغوطة كانت بأثمان رخيصة، في حين أن الوقائع تثبت أن النظام خسر مئات من نخبته.
وربما كان هذا السبب الأخير الدافع القوي لاستخدام السلاح الكيميائي، فخسائره في الغوطة تخطّت حاجز تقديراته، والحد المقبول احتماله في هذه المعركة، خصوصا أن نظام الأسد بات في وضع محرج تجاه بيئته، نظراً إلى حجم خسائره على المستوى البشري.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال أمام نظام الأسد جولات صراعية عديدة، ومعارك يعتبرها أشرس بكثير من معارك الغوطة، سواء في إدلب أو في الجنوب، وكذلك في شرق سورية، وخصوصا بعد أن تكشّف أن القضاء على تنظيم “داعش” لم يكن سوى كلام متعجلٍّ، وهو كل يوم يقتل عشرات من جنوده. ونتيجة ذلك، يجد نظام الأسد نفسه مضطراً لعدم المخاطرة بأعداد كبيرة من جنوده، والحفاظ على حد أدنى من الخسائر، ما أمكنه ذلك.
على ذلك، يصبح استخدام السلاح الكيميائي حلاً لمشكلات كثيرة، بنيوية وتكتيكية، تعاني منها منظومة الأسد ميدانياً، وهي مشكلة وجدت منذ 2012، نتيجة الانشقاقات الهائلة في الجيش، وهروب عشرات آلاف الشبان السوريين من الخدمة الإلزامية. ويمكن للمراقب ملاحظة أن هذا التاريخ يتطابق مع تاريخ استخدام الأسد للسلاح الكيميائي، في محاولةٍ لحل هذه الإشكالية، ويؤشر الاستخدام المكثف للسلاح الكيميائي، منذ التاريخ المذكور، إلى أن هذا السلاح تحوّل إلى خيار تكتيكي، وواحدٍ من عناصر المعارك، يجري تحديد استخدامه بناءً على تراتبية تقنية، بحيث يصبح استخدامه طبيعياً، بعد أن يفشل الصاروخ والطائرة في تحقيق الغرض.
ولم يكن خافياً، في مسار حرب الأسد على السوريين، فعالية وتأثير الكيميائي في حسم بعض المعارك، وذلك لما له من تأثير على البيئة الحاضنة للمعارضة، إذ على الرغم من أن الأسلحة الأخرى قتلت مئات آلاف السوريين، إلا أن للكيماوي تأثيرا مختلفا، انطلاقاً من إدراك الناس أنه سلاحٌ لا تنفع معه إجراءات الحماية والتحوّطات التي تجريها في مواجهة الأسلحة التقليدية. ولم يخف الروس ونظام الأسد رهانهم على تفكّك البيئة الحاضنة للمقاتلين في دوما، وإجبارهم على الخروج، ليشكّلوا بذلك ضغطاً على المعارضين، ودفعهم إلى الاستسلام، وهو ما حصل فعلاً بعد الضربة مباشرة.
غير أن ما يدفع نظام الأسد وحليفه الروسي إلى استسهال استخدام السلاح الكيميائي تقديرهم أن الرد الأميركي اتخذ، بعد التدخل الروسي، نمطيةً يمكن تحملها، فهو يقوم على تبليغ الروس بموعد الضربة وبنك الأهداف، وهو ما يمكن أخذ التحوّطات معه، وتقليل تكاليف الضربة الأميركية إلى أبعد الحدود، كما أن فوضوية سياسة الرئيس دونالد ترامب تجعل من ردود إدارته ذات فعالية منخفضة، وتحوّلها إلى مجرد سياسات آنية، وليست استراتيجية ردع دائمة. وقد شجّع قرار ترامب الانسحاب من سورية كلا من روسيا ونظام الأسد على اتخاذ هذه الخطوة، لاعتقادهم أن سورية خرجت نهائياً من اهتمامات الإدارة الأميركية، ولا يمكن بالتالي الإقدام على مغامرة الرد على الهجوم الكيميائي.
يبني نظام الأسد قرار استخدام الأسلحة الكيميائية على أساس حساباتٍ خاصة به، ورهانات لا يفهمها غيره، وليس لها علاقة بالعقلانية والرشد، وهو نظامٌ فريدٌ لا يجوز محاكمة سلوكه وفق أصول السياسة وطرائق إدارة الأنظمة السياسية للأزمات التي تواجهها، والغريب أن من يرى في نظام الأسد الرشد، وأنه ليس على تلك الدرجة من الحماقة لكي يورّط نفسه في جريمة شهودها كثر، يتغافل عن خوض هذا النظام حرب إبادةٍ ضد السوريين، بشراً وعمراناً، منذ ثماني سنوات، وكأنما كل هذا الدمار والتطهير الطائفي والتغييب في السجون قرارات عقلانية ذكية، واستخدام الكيماوي خارج عن هذا السياق؟
عذراً التعليقات مغلقة