“من كان يحسب أن البعث ينتهي إلى كل هذا العبث؟ من كان يحسب منا أن تصبح كلمة بعثي تهمة يدفعها بعضنا عنه بسخر مر؟ كانت خيلاؤنا به واعتزازنا، إذن، غروراً؟ كانت التضحيات شبابنا الذى بعثرناه على دروب الشعب أحلامنا وايماننا كل ذلك كان، إذن، عبثاً؟”
هذا مقتطف من كتاب البعث لأحد رواد هذا الحزب الأوائل في سوريا، إنه ابن مدينة سلمية، الطبيب سامي الجندي، الذي نعى حزب البعث منذ حينها. تكفي هذه المقدمة كي يكتشف القارئ كم كان المؤسسون مكسوفين وخائبي الأمل، وهذا الكلام كان عند بدايات الحزب، حين تأليف الكتاب عام 1969، فلو بقي الكاتب إلى يومنا ماذا يمكن أن يقول!
نشأة مشبوهة
الكتاب يحتوي على الكثير من التفاصيل عن نشأة حزب البعث، ما كنا نعرفها كطلاب درسوا في سوريا “الأسد”، حيث أننا في كتاب التربية القومية كنا نعرف أن الحزب تأسس عام 46 من القرن المنصرم دون الخوض أكثر بالتفاصيل، في محاولة لتكريس اسم حافظ الأسد وتعزيز صنميّته كأمين عام أوحد لحزب البعث العربي الاشتراكي، وفي ذات الوقت يكشف الكتاب الكثير من التفاصيل التي تقشعر لها الأبدان، بدءاً من التعذيب الذي بدأ مع البعث والفساد الذي بدأه القادة حينها، وليس انتهاءاً بالطائفية.”أردنا أن نكون بعثاً للمناقب والبطولة فما بُعث فينا -في الحكم- غير عصر المماليك”.
المؤلف الذي وُلد عام 1920 يتكلم عن بدايات حزب البعث في أربعينيات القرن الماضي حينما كان يدرس طب الأسنان في دمشق، واجتمع مع عدة أصدقاء إلى زكي الأرسوزي المهاجر من لواء اسكندرون، وأسسوا حزباً، أسموه “البعث العربي”، ولم يستمر نشاط الحزب إلا قليلاً، بعد ذلك أسس ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار حزباً تحت اسم البعث تارة والإحياء أخرى، فانفرط عقد جماعة الأرسوزي وانضم طلابه إلى جماعة العفلق والبيطار الدمشقيان، ولكن دمشق العاصمة بقيت عصية على البعث، فهي مدينة التاريخ العربي التي لا تسلم قيادها إلا لعاشق على قدر فتنتها، لذلك بقي نشاط البعث محصوراً في الأرياف وكبر جسمه بينما بقي رأسه صغيراً، كما يقول المؤلف.
قادة البعث ناشطون اعلاميون
خلال نكبة فلسطين ذهب القادة البعثيون ليحاربوا هناك مع جيش الإنقاذ العربي، ولكنهم تحولوا إلى مراسلين حربيين لصالح جريدة البعث! عام 49 تم الدمج بين حزب البعث والعربي الاشتراكي الذي يتزعمه أكرم الحوراني، ليصبح الاسم الذي هو عليه اليوم، حزب البعث العربي الاشتراكي. خلال الوحدة مع مصر عام 59 التي كان سامي الجندي من أشد المؤيدين لها والمدافعين عنها، تم حل حزب البعث، فنُقل الكثير من العسكريين ومنهم أعضاء اللجنة العسكرية الذين اجتمعوا في مصر وتآمروا بسرية على على الشكل الطائفي، وبقيت قراراتهم سرية. وعندما تم الانفصال عام 61 كان قرار البعثيين غامضاً ومائعاً رغم أن أولى أيقونات شعارهم هي الوحدة العربية، وثلاثة من أعضاء اللجنة العسكرية محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد هم الذين قادوا انقلاب حزب البعث على السلطة عام 63، وبعد الانقلاب تم تسريح 700 ضابط من السنّة، وحل مكانهم معلمو الاحتياط.
بداية كتابة التقارير الكيدية
بعد سيطرة البعث على السلطة تم تشكيل مجلس قيادة الثورة، وكان الجندي عضواً فيه وناطقاً باسمه، إضافة إلى تسلّمه وزارة الثقافة، وإثر انقلاب فاشل قام به الناصري جاسم علوان، كُلف الجندي بتشكيل الحكومة ولكنه اعتذر فكلف بوزارة الاعلام، ويشرح كثيراً عن الفساد والتجاوزات في وزارة الإعلام حينها، وبخصوص اللجنة العسكرية التي كانت حزباً داخل الحزب فقد أخذت تنفذ مخططاتها التي وضعتها أثناء الوحدة مع مصر، فبدأوا “يستولون على كل شيء ويتسابقون على المناطق الحساسة”. وفي ذلك الوقت بدأت كتابة التقارير والوشايات، فبعض الناس قد يُكتب ضده تقريران متضادان! حيث كان بإمكانه فصل الموظفين فقط، بينما التعيين هو من صلاحية مجلس الوزراء، وعلى إثره بدأ أهل جبال الساحل بالقدوم إلى سوريا حيث يتم تعيينهم بدلاً من الموظفين المسرحين” وطغت القاف المقلقة على شوارعها ومقاهيها وغرف الانتظار في الوزارات، فكان التسريح لزاماً من أجل التعيين”.
مغادرة البلاد
إثر ذلك طلب منه أمين الحافظ مغادرة البلاد وكان سفيراً في عدة بلدان فاختار فرنسا التي بقي فيها سفيراً أربع سنوات ثم عاد بعد النكسة، فتعالت أصوات بتسليمه الحكومة فاستدعي، ولكن نتيجة الخلافات الداخلية سجن لأربعة أشهر، ليغادر البلاد بعدها.
صلاح جديد كان هو الحاكم الفعلي لسوريا بعد سيطرة البعث، فيما وضع أمين الحافظ في الواجهة، كرئيس سني، يشرح الجندي في كتابه كم كان جديد فاسداً، فهو يقول إنه ضد العائلية، ولكنه وظف كل أفراد عائلته الذين بلغوا 18 عاماً! يتساءل الناس: هل هو طائفي أم لا؟ قد يكون وقد لا يكون –أقبل الاعتقاد أنه غير طائفي– ولكنه مسؤول عنها، اعتمد عليها ونظمها وجعلها حزباً وراء الحزب. قد يقول قارىء: لا ينبغي لي أن أتعرض إلى الطائفية وأن أجانبها. أما أنا فأعتقد أنه يجب أن نعالج كل قضايانا بجرأة وبروح علمية. إن مجانبتها هي تستر عليها وإذكاء لها”. فيما لم يأت الكتاب على ذكر حافظ الأسد إلا لِماماً، أعتقد لأن حافظ لم يكن حينها ذا أهمية تذكر، حيث كان كالثعلب المكار يخطط في الظل للاستئثار بالسلطة.
المتتبع لحزب البعث يجد أنه من بداياته كان مطية للوصول للسلطة، ومأوى للصوص والفاسدين، ثم ما لبث أن أصبح واجهة للطائفيين، أي اللجنة العسكرية، وما نحن فيه اليوم من طائفية وتغيير ديموغرافي، وبيع البلد لإيران، فضلاً عن استملاك أراضي وعقارات المهجرين، الذي ما هو إلا نتيجة طبيعية لتلك السياسة التي بدأت قبل أكثر من نصف قرن، فالمقدمات تؤدي إلى النتائج، والبعرة تدل على البعير، “بدأ البعث العربي بالإنسان وتقديسه وآل إلى جلاد… أصبح البعثيون بلا بعث، والبعث بلا بعثيين: أيديهم مصبوغة بالدم والعار يتسابقون إلى القتل والظلم والركوع أمام مهماز الجزمة”.
عذراً التعليقات مغلقة