يدخل الصراع السوري عامه الثامن على وقع احتدام المعارك في الغوطة وعفرين، ويتخلله تصعيد كلامي بين واشنطن وموسكو على ضوء تحذيرات روسيا بالرد العسكري على هجمات أميركية محتملة ضد المنظومة الحاكمة. فقد نُسبَ إلى الجنرال فاليري غيراسيموف، رئيس هيئة الأركان الروسية، بداية هذا الأسبوع، تحذيره من أنه “في حال مهاجمة دمشق، سيتم تدمير حاملات الطائرات الأميركية، والطائرات المشاركة”.
بغض النظر عن اللهجة العالية والتوتر غير المسبوق بين الطرفين يُستبعدُ الانتقال من الحروب بالوكالة والتقاطعات في المصالح إلى المواجهة المباشرة. لكن ذلك يؤشر على خارطة أكثر تعقيداً للصراع في سوريا، حيث توجد قواعد عسكرية وقوات روسية وأميركية وإيرانية وتركية في بلاد مزقتها الحرب وتقسمت إلى مناطق نفوذ ستدور حولها نزاعات لا تؤدي إلى فرض الحل الروسي، بل يمكن أن تؤدي إلى نشوب صراعات أوسع تنخرط فيها قوى إقليمية ودولية.
شهر فبراير 2018 شهد وصول الحرب السورية إلى أعتاب مرحلة جديدة، حيث سقط في منطقة دير الزور العديد من المقاتلين الروس غير النظاميين بنيران الطائرات الأميركية، وتم لأول مرة منذ فترة طويلة إسقاط طائرة إف-16 إسرائيلية بعد ضرب طائرة إيرانية مسيّرة عن بعد، وكان قد سبق ذلك إسقاط طائرة سوخوي روسية فوق إدلب، وعملية هجومية ضد قاعدة حميميم الروسية، وتزامن كل هذا التفاقم مع عملية عسكرية تركية ضد وحدات الحماية الكردية في عفرين.
ويدلّل هذا المشهد على أن التقاطعات التي قادتها روسيا للتحكم بالوضع السوري منذ سبتمبر 2015، أخذت تتفسخ لأن الموافقة الضمنية الأميركية تعدّلت مع قرار الاحتفاظ بالوجود العسكري الأميركي في شمال وشرق الفرات، ونظرا لفقدان القدرة الروسية على استمرار التوفيق أو عدم الصدام بين المصالح المتضاربة لإيران وإسرائيل، أو بين الأهداف المتناقضة لتركيا والأكراد.
تصورت القيادة الروسية أنها بعد الهزيمة الاستراتيجية للمعارضة العسكرية في حلب التي حصلت بفضل تغاضي إدارة باراك أوباما ورغبة بوتين بالحسم حينها لأنه كان يفترض أن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض سيمهد لوفاق بين الطرفين وإلى تكريس مكاسب روسيا في “اللعبة السورية الدموية”. ومن هنا كانت اتفاقيات أستانة ومناطق خفض التصعيد الستار لضرب المسار الأممي وفق وثيقة جنيف، وللسماح للنظام بتجميع قواته للانقضاض على المعارضة المسلحة.
وفي هذا الصدد يشير المجلس الروسي للعلاقات الدولية إلى حجم الاستفادة التي جناها النظام وداعموه من اتفاقيات “خفض التصعيد”، وأنه “نتيجة لذلك استطاع فك الحصار عن دير الزور، ثم ذهب إلى مناطق في إدلب، وأخيرا إلى عمليته الواسعة في الغوطة الشرقية”. إذ أتاحت ترتيبات أستانة تحييد جبهات محددة مع قوات المعارضة بحجة دخولها في مناطق “خفض التوتر”، في حين جرى الاستفراد بمناطق أخرى رغم دخولها ضمن اتفاقيات أستانة، كالغوطة الشرقية.
وعلى الرغم من تخلي داعميها عنها والتموضع التركي ضمن ما يفترض أنه “المحور المنتصر أو المتقاسم للمكاسب” صمدت المعارضة السورية بالرغم من انقساماتها وثغراتها. وأدى فشل مؤتمر سوتشي إلى إبراز عدم قدرة روسيا على تحويل إنجازها العسكري إلى مكسب سياسي ملموس لأن واشنطن تعترض على استفراد روسيا بحل أزمة دولية كبرى، ولأن الصراع في سوريا لا ينعزل عن محاولة احتواء نفوذ إيران الإقليمي وهي أولوية إدارة دونالد ترامب كما يتضح في مرحلة ما بعد إقالة وزير الخارجية ريكس تيلرسون.
تتحول الساحة السورية إلى ساحة تصفية الحسابات عشية إعادة انتخاب الرئيس فلاديمير بوتين، وبعد قرار ترامب ترتيب بيته الداخلي وتركيب فريق عمل متجانس لمواجهة التحديات الخارجية. ويأتي ذلك في ظل “تراشق كلامي” بين لندن وموسكو على خلفية محاولة تسميم جاسوس روسي سابق وابنته داخل بريطانيا وردا على تصريح وزير الدفاع البريطاني الذي قال “يجب على روسيا أن تتنحى وتبتعد وتخرس”، اعتبر المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف، أن الكلمات التي تفوّه بها وزير الدفاع البريطاني غافن ويليامسون تشهد على “الانحطاط الشديد لمستوى تفكيره وعقمه الفكري”.
والملفت أن المتحدث الروسي ربط ذلك بالوضع السوري قائلا إن “بريطانيا تحولت منذ فترة طويلة إلى وكر عالمي لجميع الفارّين من مختلف بقاع العالم، بل وإلى مقر للذين ينتجون ويوزعون الأنباء المزيفة بدءا مما يُسمى بـ“المرصد السوري لحقوق الإنسان”، ووصولا إلى “الخوذ البيض” التي أشرف على تشكيلها في سوريا ضابط استخبارات بريطاني”. وختم “تشكلت لدينا مناعة تجاه كل الاتهامات المزعومة التي تُطلقها لندن ضد موسكو”.
تدلل هذه الأمثلة على أن مناخ التوتر غير المسبوق بين روسيا وحلف شمال الأطلسي من أوكرانيا والبلطيق إلى مسارح أخرى في العالم، يمكن أن يترجم بمزيد من اختبارات القوة على الساحة السورية. يبدو أن روسيا مصرة على أن “انتقامها” نجح إزاء إخفاقات الماضي من المرحلة الإمبراطورية إلى المرحلة الشيوعية، وأنه لا يمكن التصدي لها أو لجم طموحاتها.
بعد اجتماع مع نظيريه التركي والإيراني، يوم 16 مارس، كرر “ثعلب” السياسة الروسية سيرجي لافروف تحذيراته قائلا إن “تهديد واشنطن بقصف دمشق غير مقبول”، وكان قد سبق له أن وجه لسعة إلى المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هيلي قائلا إن “الكلام بين الميكروفونات يختلف عن الحرب على الأرض”. بيد أن التهويل الروسي لم يمنع المتحدثة باسم البنتاغون، دانا وايت، من القول إن “الروس اختاروا عمدا عدم كبح جماح نظام الأسد”، مشيرة إلى أن “موسكو متورطة أخلاقيا ومسؤولة عن فظائع النظام”. وفي نفس السياق أكد مستشار الأمن القومي الأميركي، الجنرال هربرت مكماستر، أن “روسيا وإيران تتحملان المسؤولية في تأجيج العنف وزيادة المعاناة في سوريا”.
إزاء تطور مسارات الوضع وفي مرحلة “تصفية الحروب السورية”، انتقل النزاع إلى مرحلة متقدمة وأصبح من أكثر المواقع احتداما في عالم أكثر خطورة. يمتد الاستعصاء السوري على عدم قدرة روسيا وإيران على فرض أجنداتها وهكذا من دون تعديل ميزان القوى ومن دون حد أدنى من الوفاق الدولي ستبقى الأبواب موصدة أمام الحل العادل واستعادة سوريا كدولة وككيان.
عذراً التعليقات مغلقة