أن تعمل في المجال الانساني هو بحد ذاته عمل رائع ويجعلك تشاهد ما لم يسمع به الآخرين، و ترى الحقيقة واضحة، وتبدو والمشاعر مجردة من أي زيف أو تبرج، فكيف إذا كان هذا العمل وقت الحرب؟ وقت لايعلو على صوت الرصاص إلا صوت الإنسانية؟
العمل الميداني خاصة في المشافي له وجه آخر غير العمل الطبي، هو رؤية الانسانية والمشاعر بتجرد، لأنك تصبح بعد عدة معارك وقذائف وأشلاء عبارة عن شاهد على عددها وكيف حصلت.
من خلال عملي في مستشفى مدينة موحسن الميداني في دير الزور مر علينا الكثير من هذه الحالات، سأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أمثلة على حوادث لم تخطر على بال أكثر كتاب السيناريو حضورا وخيالاً.
كان الوقت عصرا عندما طُلب من سائق سيارة الاسعاف أن يتجه لمعبار نهر الفرات ليحضر شاباً من مقاتلي الجيش الحر أصيب في مدينة دير الزور وكان الطريق الوحيد المفتوح هو معبار النهر، ذهب سائق سيارة الاسعاف يرافقه أحد رفاقنا في المستشفى وكنا كلنا أسرة واحدة لاتفرق بيننا، نعرف ماعلينا أن نعمله دون تأخر.
وصل المصاب إلى المشفى كانت إصابته بيده، شاب في مقتبل العمر صاحب جسم ضخم، كانت إصابته في يده التي كانت شبه مبتورة وكان المصاب قد دخل بما يشبه الصدمة من كثرة الدم الذي نزفه.
الملفت للنظر أن مرافق هذا الشاب كان أخاه الصغير الذي لم يتجاوز عمره الـ 15عاماً كان يحمل بندقيته ويجلس خارج غرفة العمليات.
قرر الدكتور أن يحاول إرجاع اليد للشاب ودخلنا غرفة العمليات التي استمرت حوالي 6ساعات، كانت عملية معقدة تحتاج لعدة اختصاصات، أوعية وعظمية وعصبية.
أخوه الصغير في كل مرة أخرج يقول لي ويسألني: استشهد؟ أجيبه أن حالته جيدة، فيجيب أنه سوف يستشهد.
بعد أن إنتهت العملية وكنا نقلنا للمريض 10 وحدات دم انتهت العملية وكان والدا المصاب قد حضرا للمستشفى.
منذ قدومهما لم يحركا ساكناً، يجلسان بهدوء ويدعوان الله أن ينقذ ولدهما، كانا كل منهما قد تجاوز العقد السادس من العمر.
الاخ الاصغر لم يغادر مكانه، بقي يحتضن بندقيته وبندقية أخيه وشبه متأكد من استشهاد أخيه.
انتهت العملية وخرج المصاب بحالة جيدة، وتم تحويله لغرفة أخرى حيث تحدث مع والديه، سأله والده عن حالته وقال: الحمد لله. وكذلك والدته التي قبلت جبينه، بقي أخوه متوجساً ويحمل البندقيتين.
دخل كادر المستشفى غرفة الاستراحة ليتناول إفطار رمضان، لنسمع بعد دقائق دقات خفيفة على الباب، والد المصاب يعتذر أنه أزعجنا، لكن لا يعلم ماحدث لولده!
خرجنا على عجل لنجد الشاب قد توقف قلبه وفارق الحياة شهيداً، حاولنا إنعاشه، لكن قلبه أبى أن يعود للحياة.
الأب لم ينبس ببنت شفة، خر ساجداً لله، والأم لم تفارق شفاهها كلمات الحمد والشكر لله، أما أخوه الصغير فبقي جامد الملامح منذ أن أتى مع أخيه الذي كان موقناً من شهادته.
مشهد لاتراه حتى في الأفلام، والدا الشهيد الذان تجاوز بهما العمر مسافات كبيرة يحدث أحدهما الآخر ويصبره بكلمات رائعة، ومن بين دموع عناصر المستشفى كان السؤال: من أي كوكب يأتي مثل هؤلاء البشر بصفات ملائكة؟!
قصة أخرى تكاد تشبه قصتنا حدثت مع زميل لنا في المستشفى، حيث كانت الاشتباكات على أشدها عند حدود المطار، النظام يحاول التقدم وأبطال الجيش الحر يصدونه رغم أنه يستخدم كل أنواع الأسلحة.
بعد ساعة من بداية الاشتباك بدأت تصل إلينا الاصابات، كان الاستنفار واضحاً على وجوه عناصر المستشفى ولايوجد أحد من هؤلاء إلا وله أخ أو أكثر وصديق وقريب في ساحة المعركة، كانت العيون تحدق مع وصول الشهداء والإصابات، ثم بدأ العمل وانهمكنا بتتالي المصابين ونسي أحدنا من له هناك تحت القصف، كل منا كان همه إنقاذ من هو بين يديه.
كنا وأحد العناصر في غرفة الاسعاف نقوم بخياطة جرح أحد المصابين، وكان طاقم الهاون قد أصيب بقذيفة مباشرة وتعدادهم ستة.
المصاب كان به جروح متعددة لكنها ليست كبيرة وخطيرة، وفي غمرة عملنا سأل المصاب زميلي الذي يقوم بخياطة جرحه: هل الجميع بخير؟ فأجابه زميلي الحمد لله الكل بخير، عندها قال المصاب: الحمد لله لم يستشهد من الطاقم سوى نزار.
هنا تجمدت ملامح زميلي وهو يخيط جرح المصاب وسأله: أي نزار؟! كانت المفاجأة .. نزار هو الأخ الأصغر لزميلي، وهو من طاقم الهاون، ارتقى شهيداً. ليتابع القدر قصة استشهاده، كان نزار مسجى على أحد الأسرة خلف زميلي مباشرة، عندما أدار ظهره شاهد جسد أخيه مسجى خلفه!
لا أعرف ما الذي دار بخلده كل ما استطعت القيام به هو أن آخذ زميلي لأقرب مقعد ليجلس بالقرب من جسد أخيه بدموع تكاد لاتريد النزول!
مضت ثلاثة أيام، كان نعيم شقيق نزار بيننا يتابع عمله ويساعد رفاق أخيه الشهيد.
غيض من فيض هؤلاء هم حاضنة ثورتنا ومن كان هؤلاء حاضنته لن يُخذل أبداً وسينتصر.
رائع جدا نتمنى المتابعه من قصصكم لانها تعيد الحياه للانسانيه