مرّت الأزمة السورية، أي الثورة وما ارتبط بها من تدخلات ونزاعات محلية وإقليمية ودولية، بثلاث مراحل رئيسية. كانت الأولى المرحلة البطولية التي رمى فيها الشبابالسوريون أنفسهم في معركة غير متوازنة أبدا مع نظام مدجج بالسلاح، ومدعوم بقوة من حلفائه، وموضع إجماع دولي على بقائه، حتى لو كان لدى دول كثيرة اعتراضات مختلفة على سياساته الداخلية والخارجية. وكان الطابع الرئيسي لهذه المرحلة الاحتجاجات السلمية في كل المدن والقرى، للتعبير عن إرادة مشتركة، عابرة للطوائف والطبقات والقوميات، لتغيير النظام المستشرس، واستبداله بنظام ديمقراطي، يحترم حقوق الناس وحكم القانون ومصالح الأغلبية الاجتماعية. وقد أجهز على هذه المرحلة السلمية بتعميم حمامات الدم التي شاركت فيها قوى النظام العسكرية والأمنية بمشورة حلفائه من اللبنانيين والإيرانيين وخبرتهم. وكان من نتيجة ذلك بداية انطلاق العمل لتسلح الثورة، دفاعا عن النفس أولا، ولعدم ترك النشطاء والمدنيين الأبرياء يصطادون في بيوتهم وشوارعهم من دون ثمن.
والمرحلة الثانية هي التي استعاد فيها النظام المبادرة، وانتقل فيها باستخدام العنف من عمليات القمع الدموي واسعة النطاق إلى الحرب الشاملة المنظمة، فأعاد تنظيم قواته، وتعزيز المواقع والقواعد العسكرية الرئيسية في المدن والمطارات، قبل أن يخوض مستخدما جميع ما يملكه من سلاح، بمساعدة الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني والمليشيات الطائفية العراقية والأفغانية والباكستانية، حرب استرداد طويلة لاستعادة ما خسره من الأراضي والمواقع. وفي إطار هذه الحرب الشاملة التي أعلنها على الثورة، أطلق النظام وحلفاؤه أيضا من السجون العناصر الجهادية الإسلامية التي كان يحتفظ بها للاستخدامات السياسية، وسمحوا لمنظمات متطرّفة، كانت حليفة لهم في العراق، باحتلال مواقع استراتيجية، والاستحواذ على مخازن أسلحةٍ تركوها لهم في معارك وهمية ومسرحية، وجعلوا من هذه المنظمات الإرهابية قوى رديفة، تعمل من وراء خطوط الثوار. وبالفعل، وقعت فصائل المعارضة بين فكي كماشة المتطرفين والقوى الإيرانية والسورية الحليفة، وخسرت خلال عامي 2014 و 2015 معظم الأراضي التي كانت قد حرّرتها. لكن النظام وحلفاءه لم ينجحوا مع ذلك في الإجهاز على الثورة. واستمرت الفصائل تخوض معارك مقاومة على مختلف الجبهات، أولا بسبب اتساع القاعدة الاجتماعية التي ترتكز عليها الثورة، وثانيا لتهافت منظومة النظام الهجومية، بما في ذلك المليشيات الأجنبية.
حصل، خلال تلك المرحلة، تبدل في الرأي العام الدولي، بما في ذلك في صفوف الدول الصديقة للمعارضة، بموازاة تنامي المظاهر الدينية للثورة، أو تقدم القيادات الإسلامية صفوف عديد من فصائلها وتغيير أسمائها. وحصل ما يشبه الاجماع الدولي على عدم التورّط في تقويض أركان النظام، في الوقت الذي بدأ الشك يدب في الأوساط الدولية في وجود بديل للنظام من غير القوى الإسلامية. ولذلك لم يلق تدخل موسكو الواسع الذي زجّ سلاح الطيران الروسي، منذ 2015، لإنقاذ النظام من خطر الانهيار، أي اعتراض من أحد، خصوصا من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. بل ربما نظرت جميع الأطراف الدولية إليه مناسبة للابتعاد عن مخاطر التورّط في حربٍ ليست مضمونة النتائج، وتكليف موسكو بالمهمة الصعبة لإيجاد حل للنزاع، أو على الأقل لإدارته، ريثما تتبلور المواقف بشكل أفضل. وبدل معارضته، أو وضع العصي في عجلاته، تعاونت الدول الغربية التي وقفت إلى هذا الحد أو ذاك ضد الأسد، معه، واستمرت في دعم الجهود الروسية للتسوية المتوهمة، على الرغم من إصرار روسيا حتى اليوم على تعطيل أي إجراء أو قرار في مجلس الأمن، يهدف إلى الضغط على الأسد، وحثه على التعاون للتوصل إلى حل. وشيئا فشيئا، انتقل محور اهتمام الدول الغربية من المسألة الأساسية المتعلقة بالانتقال السياسي، وبمصير سورية إلى مسألة الحرب ضد المنظمات المتطرّفة التي اتسعت رقعة سيطرتها على حساب الجيش الحر بسرعة لافتة، ونجحت خلال أقل من سنة في مد نفوذها على جزء كبير من الشرق السوري. وقد دفع اتخاذ الصراع هذا المنحى إلى مزيد من التفاهم الروسي الإيراني الغربي، والتعاون الجماعي، لمواجهة الإرهاب الدولي بالتأكيد، لكن أيضا للتسليم لموسكو بملف التسوية السياسية السورية.
وبينما كانت المرحلة الأولى للثورة الأكثر ملاءمةً للمعارضة، حيث نجح المجلس الوطني الذي شكلته في أكتوبر/ تشرين الأول في استقطاب قطاعات الرأي العام السوري الواسعة، كما نجح في انتزاع التأييد والاعتراف الدوليين ممثلا للشعب السوري، يمكن القول إن المرحلة الثانية التي سيطر عليها الطابع العسكري القوي، وفي ما بعد الإسلاموي، كانت أسوأ المراحل التي مرت على الثورة بكل تشكيلاتها. فقد شهدت تراجع سيطرة المعارضة على الأرض، وانحسار نفوذها السياسي معا، وتخلي داعميها الرئيسيين، من العرب والأجانب، الفعلي عنها، أو بالأحرى التخلي عن دعم المشروع الذي كانت تمثله وتدعو إليه، وهو الانتقال نحو نظام سياسي ينهي حكم الأسد ونظامه، وتركيز جهودها على مكافحة الإرهاب من جهة، وتشجيع موسكو على دفع الأطراف السورية للتوصل إلى حل بأي ثمن، حتى مع بقاء الأسد في الحكم فترة معينة من جهة ثانية.
(2)
في المقابل، يشهد هذا التفاهم الأميركي الروسي تراجعا ملموسا في الأشهر الأخيرة، بعد انحسار الموجة الداعشية، ونجاح المحور الروسي الإيراني السوري في احتواء قوى الثورة الشعبية، ولجم تقدمها. وكان فشل مؤتمر سوتشي الذي أراد له الروس أن يكون خاتمة جهودهم لقطف ثمار إدارة الأزمة السورية لصالحهم، ولصالح حلفائهم في طهران ودمشق، ثمرة هذا التراجع، والدليل الواضح عليه. فقد أدى القضاء على “داعش” وتراجع خطر سقوط النظام السوري ومؤسساته الأمنية التي كانت شريكة لأجهزة الأمن الغربية، والأميركية بشكل خاص، في مكافحة التطرّف والإرهاب، حتى لو أن الجميع يعرف أنها كانت أيضا من صانعيه ومستهلكيه، إلى إيجاد وضع جديد، وتدشين مرحلة ثالثة من مراحل الثورة/ الأزمة السورية، تتميز أولا باستنفاد التفاهم الذي حصل بين المعسكرين الإقليميين/ الدوليين المتواجهين على الأرض السورية، بقيادة واشنطن وموسكو، وعودة التوتر والنزاع بين جميع الأطراف.
فبعد احتواء قوى الثورة المسلحة والسياسية، ووضع حد لخطر سقوط “الدولة/ النظام”، لم يعد هناك حاجة للتعاون الدولي كما حصل في المرحلة السابقة، كما أن إخفاق موسكو في إنجاز تسوية سياسية أوكلت لها جميع الأطراف مهمة تحقيقها، بسبب ارتهانها لمصالحها ومصالح حلفائها الإيرانيين، وتطرفها في تأييد الأسد، وتجاهل التطلعات الشعبية، واستهتارها بها وبالمعارضة، واستمرار تدهور الأوضاع الإنسانية الخطير، تغيرت خارطة العلاقات والتحالفات على الأرض السورية، وبدأت ترتسم خطوط تماس وصدام لم تكن منظورة من قبل. باختصار، أعلن فشل السياسة الروسية في سوتشي تغير محور الصراع وأهدافه. فلم يعد خطر الانتصار هو المحرّك للعلاقات الدولية على الأرض السورية، وما ارتبط بذلك من صرف النظر عن همجية الأسد وبقائه في السلطة، وإنما الصراع على إعادة تشكيل سورية بعد الحرب، وتقاسم مناطق النفوذ وتعيين الأدوار الفاعلة فيها. وما كان ممكنا الاستمرار في هذه الحالة في التغطية على تناقضات المصالح، وتجميد النزاعات، كما حصل في المرحلة الثانية. وكان لا بد للصراع والتنافس بين الدول الخمس الرئيسية المنخرطة في الأزمة السورية أن يتفجر من جديد، وتبرز هشاشة التفاهم الذي حصل بينها خلال السنتين الماضيتين، وحتى إلى حد كبير خلال المرحلة الأولى للثورة. وتبدو واشنطن التي كانت حريصة على إعلان عدم رغبتها في التورّط في الأزمة السورية، تؤكد حضورها العسكري والسياسي معا، سواء من خلال قواعدها العسكرية المباشرة التي أقامتها على مناطق الشرق والشمال الشرقي السوري، أو من خلال تزايد دعمها القوات المحلية التي تستند إليها، الكردية ومنذ فترة العربية التي تنوي تعزيزها أيضا، ورغبتها في البقاء حتى تحقيق الانتقال السياسي في سورية. وبالمثل، بعد أن غضت إسرائيل النظر كليا عن التدخل الإيراني العسكري الواسع، أصبحت تطالب علنا اليوم بخروج المليشيات الإيرانية، حتى أصبحنا في نظر بعضهم على أعتاب حرب إيرانية إسرائيلية على الأراضي السورية. أما تركيا التي ترددت كثيرا في التدخل في السنوات الست الماضية، فلم تعد تخفي عزمها التدخل، وإقامة قواعد ثابتة لقواتها في الشمال السوري من منطلق الحفاظ على أمنها، بينما تكاد روسيا تخسر تماما الموقع المتفرد الذي أعطي لها، لتقود عملية التسوية السياسية، وتتحول إلى قوة من القوى المتنازعة على فرض منطقة نفوذٍ لها، والقتال ربما من أجلها في المستقبل.
كما يحصل في عالم الجريمة، وما حصل ويحصل في سورية هو جريمة كبرى، شاركت فيها قوى دولية عديدة لتحقيق مصالح خاصة، لا يبدأ النزاع بين أعضائها ومجموعاتها خلال العمل لاقتناص الغنيمة، وإنما بعد اغتنامها. ومنذ الآن، انفتحت معركة الصراع على سورية بين الدول التي شاركت في النزاع، وشاركت في عملية اغتيال ثورة السوريين وتلك التي راهنت على نجاحها أو ركبت قطارها.
أعطى اندلاع الصراع من جديد بين هذه القوى انطباعا قويا لدى سوريين كثيرين أحبط طول العزل والتهميش والغربة عن قضيتهم عزيمتهم، ويئسوا من التوصل إلى حلٍّ ينهي الحرب الدموية التي يعيشونها منذ سنوات أن تغيراً إيجابياً مهما يجري الآن لصالح عدوة قضتهم إلى الواجهة. وأصبح كثيرون منهم يراهن على التحولات الحاصلة في مواقف بعض الدول، وعودة بعضها عن سياساتها العدائية أو السلبية تجاه الثورة وقضية الشعب السوري، بما في ذلك إسرائيل. وفي اعتقادي، ليس لهذا التغير الذي حصل حتى الآن علاقة بمحنة الشعب السوري، أو بتحقيق تطلعاته المشروعة، لكنه مرتبط بصراعات القوى الدولية على سورية وفيها. وهو يهدف من طرف التكتل الغربي إلى منع الروس والإيرانيين أساسا من السيطرة الثنائية على الدولة السورية وإبعاد الغربيين عنها أو تهميشهم فيها، كما همش الغربيون من قبل المصالح الروسية في العراق وليبيا واليمن. وسيبقى تأثير هذه التحولات على الصراع السوري الداخلي عرضيا ومحدودا، ما لم نغير نحن أنفسنا من خططنا ومناهج عملنا، ونُعد تعريف أهدافنا ومصالحنا، ونصنع القوى السياسية والعسكرية التي تستطيع أن تحمل قضية السوريين وتقاتل من أجلها. بل إن هناك خطرا كبيرا في هذه المرحلة في أن تستغل هذه الدول، وهذا ما بدأته بالفعل، تدهور أوضاع السوريين المعيشية، وفقدانهم السيطرة على مصيرهم، وغياب القيادة الوطنية التي توجه عملهم، وتوحد صفوفهم على طريق تحرير البلاد من الاحتلالات الأجنبية، ورفع أنقاض نظام الاستبداد، من أجل تجنيد قسم كبير منهم لخدمة أغراضها، وتطبيق جدول أعمالها الخاص، بعد أن أهملتهم وتخلت عنهم، عندما كانوا يقاتلون من أجل قضيتهم. وفي هذه الحالة، سيكون لتغيير مواقف بعض الدول، وتفاقم النزاعات في ما بينها، لضمان ما تسميها مصالحها القومية في سورية، سواء تقاطعت مع مصالح جزئية لنا أم لا، أثارا سلبية خطيرة، بمقدار ما سوف تعمل على إعادة إنتاج النزاعات الدولية من داخل المجتمع والشعب السوريين نفسيهما، وربما تحويلنا مرتزقةً في صفوف جيوشها. وربما شهدنا نشوء إمارات رسمية أو فعلية بعدد الدول الإقليمية والدولية المتدخلة في شؤوننا، ولن يقتصر الأمر على ما شهده عرب الشمال من انقسام بين مناذرة وغساسنة على خطوط التماس، والنزاع بين أكبر إمبراطوريتين شهدتهما المنطقة لحقبة قبل الإسلام، البيزنطية والفارسية.
(3)
والخلاصة، لم ينته النزاع على سورية وفيها بعد، لكنه ينحو اليوم أكثر فأكثر إلى أن يتحول إلى صراع على رسم الدول الخمس الرئيسية مستقبل سورية، بعد أن كان صراعا سياسيا من أجل تغيير نظام الحكم، وتكريس سيادة السوريين على أنفسهم ووطنهم. يريد الروس أن يجعلوا من سورية برهانا على قدرتهم العسكرية، وأهليتهم السياسية، لحل النزاعات الدولية، لكنهم بقوا أسرى نموذج حسم نزاع الشيشان، ومثال غروزني التي سحقت قبل أن يعاد إعمارها تحت إشرافهم وبعنايتهم ولصالحهم. ويطمح الأميركيون في تحويل سورية أو قسم منها إلى قاعدة لنفوذ دائم ومتحرّر من أي قيود في موقع استراتيجي بامتياز في قلب الشرق الأوسط. أما الإسرائيليون فهم يمنّون النفس بأن يحولوا سورية، بعد أن هشمت أضلاعها، إلى ما يشبه المملكة الهاشمية، أي إلى حزام أمان وفراغ استراتيجي يفصلها عن إيران وتركيا، وشريط حدودي لحماية مستوطناتها الشمالية، فيما يتحول الحلم التركي بسورية سوقا مفتوحة، وجسرا للعبور إلى أسواق الخليج، إلى كابوس انبعاث حركة التمرد القومي الكردية بعد محاولات مريرة لدفنها. أما الإيرانيون فلا يزالون مصرّين على أن سورية هي المحافظة الـ 35 للجمهورية الإسلامية وواسطة العقد في إمبرطوريتها الصاعدة، وخط الدفاع الأول عن أمنها القومي.
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بعد بالوجهة التي سيتخذها تطور الأوضاع، والطريقة التي ستحسم بها النزاعات بين مشاريع متعارضة معدة لسورية، لا يمكن أن يحصل أي توفيق بينها. وليس من الواضح كيف سيتحقق اقتسام المصالح والنفوذ بين الدول المتنازعة على وراثة المملكة الأسدية، بعد لجم شعبها وتحييده، ولا في ما إذا كانت هناك إمكانية للتفاهم والتسوية بين هذه الأطراف على حساب السوريين، وضد مصلحتهم في عودة سورية حرة ومستقلة وسيدة. لكن الأكيد أن الصراع سوف يستمر، وأن أحدا لا يستطيع أن يقول أو يدّعي، كما فعل بوتين ومن قبله الأسد أنه انتصر. وعلى الأغلب، في الخريطة الراهنة لتوزيع أوراق اللعب، لا يوجد رابحون محتملون، وإنما خسارات متبادلة، بانتظار أن يحسم السوريون أمرهم، ويوحدوا صفوفهم، ويتجاوزوا الانقسامات والشروخ التي أحدثها فيهم نظام الاستبداد الوحشي، ويعودوا إلى ساحة المواجهة من جديد، لاستعادة بلدهم ووطنهم. وهذا هو التحدي الذي ينبغي أن يرد عليه سياسيون ومثقفون وقانونيون في الأزمنة الصعبة المقبلة، وأعني به تحدي الانتقال من القبيلة إلى الشعب والأمة.
عذراً التعليقات مغلقة