أخطأ وزير الخارجية المصري، سامح شكري، كثيراً، عندما قال، قبل أيام، إن مصر ليست رائدةً في المنطقة، ولا تسعى إلى تحقيق الريادة. لا لأنه ينزع عن هذا البلد مكانته الخاصة في إغناء الثقافة والفنون والإبداعات العربية، بل لأن النظام الذي ينتسب إليه السيد الوزير يُواصل، بهمةٍ وجسارةٍ مشهودتيْن، تعزيز مكانة مصر بلداً رائداً في العالم، في اقترافِ عُسفٍ غير مسبوق في الحريات الإعلامية والعامة، وفي انتهاك العدالة والقانون والحقوق الإنسانية. وعندما يطلب قاضٍ في محكمة مصرية رأي المفتي في إعدام ستة متهمين، بينهم أربعة عاملين في الإعلام، اثنان منهم صحافيان، أحدهما أردني، فإن مصر في زمن عبد الفتاح السيسي تُحقّق بذلك ريادةً لم تسبقها إليها أعتى الديكتاتوريات التي مارس بعضها قتل صحافيين خارج القانون، لكنها لم تستخدم المحاكم لاستصدار أحكامٍ بتمويتهم عقاباً على مزاولتهم عملهم. وكان نظام سامح شكري، قبل هذه الأمثولة النادرة، قد اجترح سابقةً أخرى، قبل أيام، أنجز فيها ريادةً مصريةً لم يعرفها أي بلد، هي اقتحام مقر نقابةٍ مهنيةٍ (نقابة الصحفيين) بقوةٍ بوليسيةٍ مسلحة، من دون اتّباع أصول إجرائية، ومن دون احترامٍ لأي أخلاقٍ أو أعراف. وبذلك، يجوز الزعم، هنا، إن وزير الخارجية المصري الراهن مطالَبٌ بالاعتذار لشعبه في “شبه الدولة” التي يتولّى فيها منصبه الرفيع، إذ يفتري بكلامٍ ليس صحيحاً، ولا يليق بمسؤول حكومي أن يكذب، خصوصاً أنه قال ما قال أمام نوابٍ، انتخبهم الشعب بكل شروط النزاهة التي أرادتها أجهزة “شبه الدولة” هذه.
ما يُضاعف من الفزع من هذا الحال، أي الريادة المصرية هذه، أن الحكم بإعدام صحافيين لم يستنفر الغضب اللازم ممن ينسبون أنفسهم إلى أهل الدفاع عن الحريات العامة، ومن ذوي الديكور الليبرالي، في مصر وغيرها، ولا من فضائياتٍ ووسائل إعلام مصرية وعربية، كان من المبدئية، (وليس الفروسية بالضرروة)، أن تُناصر الزملاء الصحافيين الذي طُلب رأي المفتي في شنقهم. ولذلك، يتم الجهر، هنا، أن صمت هؤلاء وأولئك شائن ومعيب، ويدين أصحابه، والظاهر أنهم يحتاجون إلى أن يعرفوا أن استنكار حكمٍ بإعدام صحافيين موقف حقوقي وأخلاقي يتعلق بالعمل الإعلامي ومهنة الصحافة، ولا يخصّ “الجزيرة” التي يعمل فيها زميلان من المحكومين، والتي يبدو أن مخاصمتها صارت شرطاً للتقدمية والليبرالية، فيما هي قناة تلفزيونية، لها ما لها، وعليها ما عليها.
ليست مفاجئةً الريادة التي أبدعتها السلطة الحاكمة في مصر لبلدها في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، وليس مفاجئاً سكوت الحقوقيين والليبراليين وأهل الإعلام الفضائي والمكتوب، في مصر وغيرها، عن هذا الفصل الجديد من كوميديا القضاء المصري المؤسفة. ذلك أن وفاة أكثر من 350 محتجزاً في سجون عبد الفتاح السيسي (زيدت عشرةً في سنتي حكمه الميمون)، بسبب التعذيب والحرمان من الرعاية الصحية (يسمونه إهمالاً طبياً!)، كارثةٌ كاملة الأركان، ولم تعرفها مصر في أي عهدٍ سابق، ويمكن إضافتها منجزاً ريادياً يسجل للسيسي. وأن يُكتفى في مصر بإحصائياتٍ تشهرها منظماتٌ حقوقية، تستحق الثناء على جهدها، من دون أن تُشعل غضباً واسعاً من أهل الرأي والنخب والمثقفين والأدباء والإعلاميين، فتلك كارثةٌ شنيعة أيضاً. وهذان الأمران، والمعطوفان على تلك الريادة في الحكم بإعدام صحافيين، يؤكّدان المؤكّد، وموجزه أن النظام في مصر لا يكتفي بالفشل الذي يُراكمه، يوماً بعد آخر، على غير صعيد، ولا بالبلاهة المحزنة في أداء الرئيس، حين يتمنى أن يُباع، وحين يطلب عدم سماع غيره، وإنما يدأب في تظهير مصر بلداً يختطفه الرئيس المذكور، ومن معه من عسكر ومن بقايا حسني مبارك. وإذ هذا هو المشهد المصري، في حوافّه وبعض تفاصيله، فإن طلب موظفٍ يعمل قاضياً رأي المفتي في شنق زميليْن صحافيين، ومباركة ذوي مزاعم ليبرالية وحرياتٍ فردية وعامة هذا الطلب، بعدم استهجانه واستنكاره، يصبح مجرد دليلٍ جديدٍ على كُساحٍ شديد تعاني منه الثورة المضادة في مصر، تظن أنها ظافرة، فيما هي كالحةٌ ورثّة.
* المصدر: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة