في حكاية سوريا وثورتها، والتي هي ثورتنا نحن أبناء هذا الشعب، المنتمين لكافة مكوناته الدينية والطائفية والمذهبية والقومية، نحن الشعب الذي تراصّ أبناؤه صفوفاً نهتف ونغني للحرية، الحرية من هذا النظام المستبد، نجد أن هناك اختلاطاً كبيراً في المفاهيم، اختلاطاً أضر بنا ضرراً كبيراً وأضر بثورتنا وشعبنا.
لقد حصل خلط بين الدولة والنظام في سياق الفعل الثوري لدى الكثير من أبناء هذا الشعب، فلم يحدث تفريق بين النظام وبين الدولة، لأن النظام تماهى في الدولة واحتل أركانها، وهذا الخلط لم يكن لدى عدد كبير من شباب الثورة، بل تعداه لشخصيات تحسب نفسها على المثقفين والسياسيين والقادة وصناع الرأي. وأذكر تماماً رد أحدهم عليّ حين كنت أتحدث عن ضرورة التفريق بين مؤسسات الدولة، والنظام، وعن ضرورة إعادة هيكلة أجهزة الدولة، وإصلاحها، لتوائم النظام الديمقراطي الذي نسعى لتحقيقه، فكان رده “كيف تريد إعادة هيكلة مؤسسة الكهرباء مثلاً، وهي من انتاج النظام، وعلى شاكلته، فكل مسؤوليها وموظفيها فاسدون”، مستطرداً ” دخلك شو فيها أجهزة صالحة، كلها خربانة ومنتهية صلاحياتها ….”.
يومها شعرت بالخطورة، فإذا كان هذا الشخص الذي يرى – ولايزال – في نفسه قائداً وصاحب رأي، ضرورة هدم مؤسسة الكهرباء لأنها تحوي فاسدين، خالطاً بينها كمؤسسة وجهاز من أجهزة الدولة، وبين النظام السياسي الأمني الذي يهيمن عليها ويفسدها، فعلى ثورتنا السلام!.
الخطورة التي أحسست بها تأكدت لي، وانا أرى التخريب، وسرقة ممتلكات الدولة وإتلافها، في المناطق التي “حررت” من سيطرة النظام، تحت ذرائع مختلفة، ولم أكن أستطيع فعل شيء سوى الصراخ والنقاش المحتد المعترض، فأنا “شقفة” شاب من شباب الثورة، لا أملك حتى أجرة بيتي، وهو وأمثاله من أصحاب الرأي يملكون الأموال والإعلام والنفوذ، ويمكنهم التنقل بحرية بين القاهرة والشمال السوري المحرر حينذاك، ويمكنهم زيارة خيمة العقيد رياض الأسعد التي أصبحت قبلة يحج إليها الجميع ملتمسين رضاه، فقد أصبح رمزاً من رموز الثورة – مع التحفظ على أخطائه القديمة والحديثة – ناطقين باسمه، خالعين على أنفسهم مناصب في مؤسسة غير موجودة أصلاً سوى كتسمية معنوية “الجيش الحر” ، متباهين أنهم يملكون رقم جواله، كما كان يتباهى الكثيرون قبل الثورة بامتلاكهم رقم جوال عنصر أو مساعد في المخابرات، وفي الغالب دون علم هذا المسكين القابع في خيمته.
لن أتحدث عن الأسباب التي جعلت من هؤلاء “الحرافيش” – الذين دمروا ممتلكات الدولة ونهبوها- قادة وأصحاب نفوذ، فقد استفضت مطولاً في شرحها بأكثر من مقال ضمن سلسلة حكاية سوريا، ومن ضمنها مقال “نتائج تغييب السياسة عن المجتمع السوري”.
لكن ما هو النظام الذي نرغب بإسقاطه؟ ولماذا نريد إسقاط النظام؟
من خلال سلسلة حكاية سوريا، نجد أن نظام عائلة الأسد المتحكمة في سوريا، هو نظام اقطاع سياسي مستبد ذو طبيعة مافيوية، أنتج اقتصاد طفيلي، واعتمد على الأجهزة الأمنية لقمع أي حركة احتجاجية من الشعب، وعلى تفريق المجتمع لمكونات ما قبل سياسية لتسهل السيطرة عليه، كما اعتمد أيضاً على نشر الفساد كي يغطي على فساده ونهبه المنظم لثروات وخيرات البلد.
أما لماذا نريد اسقاط النظام؟ فلأنه كاذب وغير قابل للإصلاح. لقد وعد بشار الأسد في خطاب القسم أنه سينفذ إصلاحات سياسية ولم يفي بوعده، لا بل أغلق المنتديات السياسية وسجن الكتاب والمعارضين، ثم وبعد عدة أعوام قررت القيادة القطرية لحزب البعث – وهو الحزب الحاكم حسب الدستور – إطلاق الحريات السياسية، وحرية الصحفة، إلا أن هذه القرارات بقيت حبراً على ورق، ومع انطلاق الاحتجاجات في درعا وغيرها من المناطق السورية، خرجت بثينة شعبان لتعد الشعب بالإصلاح، لنفاجئ بخطاب رأس النظام، بشار الأسد، يعلن فيه الحرب على الشعب المنتفض المطالب بتحقيق الإصلاحات التي وعد هو نفسه بها. لهذا فلا يمكن الوصول لهدف الثورة السورية في الحرية، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة القانون والمؤسسات، سوى عبر اسقاط هذا النظام.
لهذا فحين نبحث في الثورة عن تحالفات، فلا يعني هذا أن نتحالف مع أشباه النظام حتى لو اختلفوا معه، فليس كل من رفع علم الثورة، وهتف للحرية، يعني أنه يؤمن بأهداف الثورة، ويسعى لتحقيقها، فقد يكون يهدف للحرية من هذا النظام كي يأتي هو كبديل، وليس كل من حمل البندقية وقاتل النظام يعني أنه مع الثورة، الثورة التي تسعى للانتقال من دولة الاستبداد إلى دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، دولة تبنى على أساس المواطنة المتساوية.
ويمكن أن نرى المثال الأبرز لمن ادعى أنه مع الثورة، وقاتل النظام، في دويلة داعش وإمارة النصرة، وقد نالا في بداية التشكيل والإعلان الدعم الجماهيري الواسع، بحجة أنها مشاريع تخاف الله وليست فاسدة كما روج وشوهت سمعة الثوار الأوائل، وأنها تقاتل النظام ولا تسعى لسلطة أو إمارة، وكان لغياب الوعي السياسي عن الكثير من شباب الثورة، واعتمادهم على عواطفهم في بناء الموقف، ونفاق النخبة السياسية أثر كبير في الوصول لهذه الحالة، وهي أن كل من حارب نظام الأسد هو صديق لهم، حتى لو كانت مشاريعهم تتناقض مع مشروع وأهداف الثورة، وهذا واحد من الأخطاء التي وقعنا بها في الثورة.
وليس كل من اختلف مع النظام وانشق عنه يعني أنه يريد الحرية للشعب السوري، فكل من كان من نفس طينة هذا النظام وراكم الثروات غير الشرعية من الفساد والنهب هو جزء من النظام، نرحب بانشقاقه، ونثمن موقفه الأخلاقي هذا، لكن لا نضعه في أماكن مؤثرة من مفاصل قيادة الثورة.
وعليه أن يعلن عن حساباته وأمواله، ويعتذر عن الفترات التي قضاها في نهب خيرات البلد، ويعيد الأموال التي سرقها، قبل أن نقبله ثائراً بيننا، فالثورة لا تجب ما قبلها، لكنها تقبل المتطهرين.
إن الثورة السورية مليئة بالفاسدين والمفسدين، وبعضهم موجود في مراكز مهمة في العديد من مؤسسات الثورة، وعلينا أن ننتبه لخطورة وجودهم.
إن الثورة السورية لا تعني مطلقاً الانتقال من استبدال طاقم حاكم بطاقم آخر، إنما تعني الانتقال من تشكيلة الاقطاع السياسي الحاكم حالياً إلى تشكيلة مناقضة كلياً للتشكيلة الحالية، أي التشكيلة المعتمدة على العمل السياسي والمؤسسات السياسية والعمل الجماعي المنظم، وعلى الديمقراطية واحترام الرأي الآخر.
- حكاية سوريا: سلسلة مقالات تستعرض ملامح ورؤى من التاريخ البعيد والقريب لسوريا، يمكن من خلالها فهم أسباب ما يجري من حروب ودمار على أرضنا، حسب وجهة نظر كاتبها.
عذراً التعليقات مغلقة