إذا كان كل عام من أعوام الأزمة السورية قد اتسم بعنوان ما، فإن عام 2017 هو “عام أستانا”. لقد توصلت الولايات المتحدة وروسيا إلى تفاهم يقضي بضرورة وقف إطلاق النار، أو تخفيف حدة الصراع تمهيدا للانتقال إلى محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
ومع أهمية هذين التطورين، إلا أنهما نقلا الصراع من مستوى إلى آخر، وفتحا الباب على مصراعيه لطرح الملفات الكبرى العالقة.
إتمام التوافقات
أطل عام 2017 على السوريين بحالة من الهدوء العسكري نجمت عن اتفاق روسي/تركي يقضي بوقف إطلاق النار في عموم البلاد، ليبدأ بعدها مسلسل مفاوضات أستانا التي عُقد أول اجتماعاتها في 23 يناير/كانون 2017 بحضور روسي/تركي/إيراني، بهدف إنشاء آلية ثلاثية لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار.
شكلت منصة أستانا تطورا مهما لجهة قبول معظم فصائل المعارضة المسلحة الرئيسية بخيار المفاوضات، أو خيار الحل السياسي بعدما كانت ترفض هذا الخيار، ولجهة قبولها بالابتعاد عن “هيئة تحرير الشام”.
ومع أن هذين التطورين كبّلا فصائل المعارضة بحصارها في “غيتوات” جغرافية منعزلة، إلا أنهما شرعنا وجودها على طاولة المفاوضات كندٍّ شرعي مقابل النظام.
على الأرض انعكس هذان التطوران في انطلاق ثلاث معارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية: الأولى خاضتها فصائل المعارضة المدعومة من تركيا للسيطرة على مدينة الباب بريف حلب الشمالي، والثانية أطلقتها قوات النظام في ريف حلب الشرقي، والثالثة شنتها قوات سوريا الديمقراطية للسيطرة على مدينة الطبقة في ريف الرقة الجنوبي الغربي.
وإذا كانت المعركتان الأولى والثانية نفذتا بتوقيع روسي، فإن المعركة الثالثة كشفت قوة الحضور العسكري الأميركي الذي تجاوز جغرافية الشمال السوري ليصل إلى المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية على الحدود العراقية.
وجاءت ضربة الشعيرات -التي نفذتها أميركا- لتضاعف الجهود الروسية من أجل تطوير اتفاق وقف إطلاق النار، لقطع الطريق أمام أية محاولات لإقامة مناطق آمنة في الجنوب السوري أو في شماله.
تُوجت الجهود الروسية في يوليو/تموز بالاتفاق على إنشاء أربع مناطق لخفض التوتر (الجنوب السوري، الغوطة الشرقية، حمص، إدلب ومحيطها)، ومع تثبيت الهدنة بهذه المناطق، بدأت قوات النظام تنهي سيطرتها على المنطقة الجنوبية من نهر الفرات في محافظة الرقة استعدادا لدخول محافظة دير الزور.
شكلت محافظة دير الزور عنوانا حادا للتنافس بين المحورين الأميركي والروسي، وانعكس ذلك بشكل ملحوظ على توزيع القوى العسكرية وتقاسم النفوذ.
ومع وصول معركة دير الزور إلى خواتيمها، تكون مرحلة تنظيم الدولة الإسلامية قد انتهت بالمعنى الإستراتيجي لتبدأ مرحلة أخرى ذات أهداف أصعب وأكثر تعقيدا.
إذا كانت المرحلة السابقة هي مرحلة التوافقات، فإن مرحلة ما بعد التنظيم هي مرحلة التباينات والخلافات. فقد بدأت موسكو وواشنطن فورا العمل على تثبيت مناطق نفوذهما، وتثبيت تحالفاتهما في مواجهة بعضهما بعضا عبر سياسة القوة العسكرية الناعمة.
هكذا بدأت الولايات المتحدة تعزيز وجودها العسكري في الحسكة وشمالي الرقة وفي منطقة التنف على الحدود العراقية، وبدأت روسيا ترسيخ وجودها في قاعدتيْ حميميم وطرطوس وتدمر، في حين بدأت تركيا تقوية حضورها العسكري في إدلب ومحيطها، وإيران في محيط دمشق والجنوب السوري وفي البوكمال.
تثبيت التحالفات
إن تعزيز الوجود العسكري لهذه الأطراف ناجم عن قناعة بأن المرحلة المقبلة هي مرحلة اختلاف الأهداف والأجندات الكبرى التي من شأنها أن تنعكس سلبا على كل محور، فواشنطن قد تجد نفسها مضطرة إلى الانفتاح على أنقرة، فيما قد تجد موسكو نفسها مضطرة أيضا إلى توسيع انفتاحها على الأكراد.
ولهذا السبب جاءت قمة سوتشيالثلاثية لتثبيت التحالفات وقطع الطريق أمام أية محاولة أميركية لاختراقها، والأمر كذلك في الجهة المقابلة؛ فارتفاع مستوى الدعم العسكري الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية جاء لتدعيم الحلف وقطع الطريق أمام أية محاولات روسية لاختراق الصف الكردي.
لكن المشكلة التي تواجه الأطراف الأربعة هي أنها ليست مطلقة القوة وخاصة موسكو وواشنطن، لأنهما أولاً بحاجة إلى أطراف حليفة تسندهما وتآزرهما، وثانيا لكونهما تدركان أن الواقع العسكري القائم يشكل أداة ضغط على كل منها، لكنه لا يسمح لأي منهما بالنصر.
فكل الأطراف المنخرطة في ساحة الحرب السورية وصلت إلى ذروتها العسكرية والجغرافية، وفي وضع يمتلك فيه الجميع فائضا من القوة لا إمكانية لاندلاع معارك كبيرة.
لم يعد بإمكان الوحدات الكردية التمدد جغرافياً، وليس بإمكانها الانخراط بشكل قوي في التسوية السياسية بسبب عدم قبولها من طرفيْ الصراع السوري (النظام/المعارضة)، الأمر الذي يعقد ويربك الدور الأميركي مستقبلا.
كما أن الأكراد يعون جيدا أن الحلول السياسية التي يسعون وراءها تتطلب علاقات تتجاوز العلاقة مع الولايات المتحدة، في حين تدرك الأخيرة أن الأكراد لن يُقْدموا على فتح أية معارك كبرى إرضاءً لأميركا.
والأمر كذلك بالنسبة للروس، فإذا كان تثبيت وقف إطلاق النار قد تطلب الانفتاح على أنقرة، فإن مرحلة التسوية السياسية وتعبيد الدروب الدبلوماسية على الأرض السورية تتطلب الانفتاح على الأكراد وبعض القوى الأخرى.
وبالنسبة لتركيا؛ فإنها وصلت إلى أقصى توسعها العسكري مع بقاء جيب جغرافي هنا أو هناك، وإذا كانت قد حققت أهدافها القومية العليا في سوريا عبر البوابة الروسية، فإنها يمكن أن تحقق بعض أهدافها الباقية من البوابة الأميركية إذا ما قررت الأخيرة منح الأتراك ضوءاً أخضرَ، وإذا حصل ذلك فسنشهد حالة من تفكك التحالفات.
إن تثبيت القوى الدولية والإقليمية لنفوذها يتطلب إيجاد حل مستدام للأزمة السورية، ومن دون ذلك ستستحيل المناطق الجغرافية المسيطَر عليها إلى مناطق استنزاف إستراتيجي لهذه الدول، لكن أمام المحورين الروسي/الأميركي ملفات خطيرة يجب حسمها، ومن شأن هذه الملفات أن تضع جزءا من التحالفات القائمة في مهب الريح.
ملفات مؤجلة
من الواضح أن واشنطن لم تطوّر بعدُ إستراتيجية عسكرية متكاملة في سوريا، وستكتفي بالمناطق الجغرافية التي تسيطر عليها. في حين ستسعى موسكو عبر حلفائها لاستكمال حسم الملفات المؤجلة، ومنها محافظة إدلب والمناطق المحيطة بمدينة حلب، وأجزاء من حماة، ومن محافظة درعا والغوطة الشرقية، ومن الحدود الشرقية.
وبينما تعتقد واشنطن أن وجودها العسكري كافٍ لعرقلة أي جهود روسية لا تتوافق مع أهدافها، يعتقد الروس أن استكمال السيطرة على المناطق التي لم تحسم بعد سيقوي حضورهم على مستوى التسوية السياسية، ويشكل أداة ضغط على المحور الأميركي.
تكمن التحديات التي تواجه روسيا في محافظة إدلب تحديدا، فالنظام وإيران يسعون إلى فتح هذه الجبهة، في حين ترفض تركيا ذلك خشية من خسارة هذه المحافظة، وخشية من موجة نزوح سكاني كبير تجاه أراضيها.
وأمام هذا الوضع تحاول روسيا ترتيب المشهد العسكري شيئا فشيئا، ولذلك سمحت لقوات النظام باختراق الحدود الإدارية للمحافظة شرق سكة الحجاز، تمهيدا للوصول إلى مطار أبو ظهور العسكري.
هذه الخطوة ستعطي للنظام القدرة على تأمين ريف حلب الجنوبي الغربي وتحويله إلى عمق إستراتيجي، كما ستعطيه أفضلية في التحرك مستقبلا إلى عمق إدلب.
على أن أهم الملفات المؤجلة هو الملف الكردي، ولا يبدو واضحا كيف سيتعامل النظام وإيران معه؛ فروسيا لن تسمح بنشوء معركة عسكرية كبيرة بين هذه الأطراف، ليس فقط لأن هذه المعركة ستؤدي إلى مواجهة مع الولايات المتحدة فحسب، بل لأن الروس بحاجة ماسة للقوى العسكرية والسياسية الكردية في المرحلة المقبلة، لاستكمال مخططاتها في رسم معالم التسوية السورية.
ومن الملفات الخطيرة الباقية، ملف الجنوب الذي يشكل هاجسا كبيرا للروس والنظام، بعدما كان بداية العام الجاري هدفا لإقامة منطقة آمنة.
وفي حين تبدو محافظة إدلب من نصيب المحور الروسي، فإن الولايات المتحدة لا تبدو بصدد التخلي عن الجنوب على الأقل وفق الوقائع القائمة إلى الآن، لتتوسع دائرة هيمنة المحورين على الأرض، وتبقى قوة الحضور الإقليمي (إيران/تركيا) ماثلة بقوة في المشهد السوري.
ولأنها لا تملك قوة اقتصادية هائلة تخولها الاستمرار طويلا في الحرب، تحاول روسيا الاستعجال في استثمار نجاحاتها العسكرية من جهة واستثمار التفاهمات السياسية مع أميركا التي عبر عنها بيان الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين المشترك.
وكما كانت ورقة قوية على صعيد الحرب، تريد روسيا أن تكون كذلك على صعيد السياسة، ويأمل الروس أن يحقق مؤتمر سوتشي المقبل اختراقا في ملف الدستور، يؤهلهم للمضي قُدُما بقوة في عملية سياسية بطيئة خالية من الانتقال السياسي.
تستغل موسكو غياب الرؤية السياسية لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، التي تجلت بوضوح مع مطالبة المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا مجلسَ الأمن بتقديم أفكار لصياغة دستور وتنظيم انتخابات، من أجل إحياء المسار السياسي.
ويبدو أن عام 2018 سيكون “عام سوتشي” كما كان 2017 “عام أستانا”، فالولايات المتحدة لا تعارض هذه المنتديات الفرعية طالما أنها تحقق جزءا كبيرا من أهدافها، لكنها في المقابل لن تدعم تسوية تعكس موازين القوة الروسية بالمطلق.
وبناءً عليه، لن يستطيع جنيف تحقيق شيء يُذكر في العام الجديد، وحتى النجاح الذي يمكن أن يحققه الروس في سوتشي لن يصل إلى مرتبة حل المعضلة السياسية، طالما أن موسكو وواشنطن لم تصلا إلى اتفاق حول تفاصيل الحل.
وهكذا ستكون الساحة السورية خلال العام الجديد ساحة للتناطح العسكري والسياسي، وأقصى ما يمكن تحقيقه هو توسيع عباءة المعارضة لتشمل فرقاء جددا.
عذراً التعليقات مغلقة