راما الزيات
في الوقت الذي تتسع دوائر الموت في سوريا، وتكثر المبادرات السياسية لحل الوضع السوري، وبينما لم نزل نحصي أعداد الشهداء هنا وهناك، لا يزال بعضنا منكباً على توجيه الاتهامات والشتائم نحو الآخرين. لم نزل حتى هذه اللحظة وبعد خمس سنوات من كل الذي عشناه من وجع كسوريين نتبادل الموت بيننا كأنما هو حق على أحد وحرام على آخر.
لم يفرق الأسد يوماً بين مكان وآخر والجميع بالنسبة إليه عدو متى خالفه ويريد التخلص منه. ولو أن الأمر توقف في البداية عندما كان الجميع يهتف لأجل الجميع لكان الأمر أهون بكثير من أن نصل إلى هذا اليوم وبعد كل هذا الوقت والموت الذي مر بنا ولم نتغير.
ما دفعني للكتابة هنا هو تجدد الشماتة أو الاستهزاء بما يطال دمشق كما الأمر دائماً، وتحليل الأمور من وجهة نظر خاصة جداً عن حياد دمشق وأهلها أو انصياعهم للنظام وبحثهم عن أقصر الطرق للحياة.
السبب غير المقنع الذي لا يريد أغلب المهاجمين اليوم استيعابه هو أن دمشق كانت نقطة تركيز النظام الأولى، والمدينة التي من صالحه أن تبقى صامدة حتى لو كانت وحدها أمام ذلك الإعصار، أي أن امتلاءها بالحواجز العسكرية في أغلب حواريها الضيقة كان أمراً مبكراً جداً عن المدن كلها.
من يقرأ تعليقات شباب ثورة 15 آذار في المرجة والحميدية، يفهم معنى أن المخابرات متغلغلة في الشعب لدرجة أنها كانت “تخرج من تحت الأرض” كما قال أحدهم.
لم ولن أدافع يوماً عن الدمشقيين في صمتهم، ولكني أقلّ لوماً لهم، لأني أعرف كيف تكون الحياة هناك، أعرف أن كل شخص فينا لديه مخبر ما يلاحقه، فقد تعرضت لملاحقة أحدهم لثلاثة أيام متتالية هناك بشكل واضح.
الصراع القائم دوماً والحرب النفسية التي واجهها الدمشقيون منذ البداية –وقد كنت واحدة منهم– متعِبة وظالمة.
في منتصف عام 2012، قابلت فتاة حمصية من باب سباع، كانت قد نقلت أوراقها لتكمل دراستها في دمشق، على إثر أحداث حمص المفجعة. في البداية كانت تتعرف على صديقاتي وأغلبهن كن من أرياف دمشق ومن درعا، عندما وصلت إليّ أخبرتها مبتسمة عن اسمي وأنني من دمشق، نظرت نحوي بازدراء وقالت: “وبتقوليها بفخر كمان!”.
كانت الحكاية أوسع من هذه الكلمة بمراحل كثيرة، لم تكن هذه الفتاة الحمصية نموذجاً واحداً مما صادفني أثناء الثورة، فكثر هم الذين كانوا ينظرون نحوي بتفاوت ما بين كوني دمشقية وثائرة في آن معاً.
صديقتي التي كانت تشاركني طريق العودة إلى المنزل نصحتني أن أقول للآخرين أنني من حرستا حيث أسكن: “هيك ما حدا بيطلعلوا يحكي معك شي”، كان الأمر مؤلماً وأشبه بأن يتخلى الواحد منا عن شيء فيه ويخصه بسبب حاجته لذلك.
هذا الشيء عشته بأدق تفاصيله منذ انخراطي الثوري بمناطق بعيدة عن دمشق، أتعبني الأمر بالأخص أمام مبدأ أن ابن دمشق لا يحق له الحديث عن تضحيات الثورة ولا حتى الدفاع عنها. لطالما كنت في صراع لإثبات أن الثورة في دمشق لا تختلف عن غيرها، لطالما كان دفاعي مشوباً بقهر كبير، وبلامبالاة من الآخرين كذلك، لدرجة أنني في إحدى إحصائيات الشهداء التي كانت تصدر شهرياً وسنوياً، كدتُ أرقص من فرط الفرح والوجع سوياً عندما تفوّقت دمشق بأعداد شهدائها ومعتقليها، كان ذلك الوجع بالنسبة لي دليلاً واضحاً أن مدينتي وأهلها ليسوا بعيدين أبداً عن الذي يحدث في كل مكان بسوريا، كنت أتابع المظاهرات الكبيرة والأمسيات التي تقام في دمشق وأخبارها، لأشعر فقط أن أحداً ما فيها يحرس حلمنا الجميل، ويعيننا على كل ذلك الجَلدِ الذي يطالنا بكامل الرضا.
هل الأمر كان بهذا السوء؟!
نعم، بل وأكثر، كثيراً ما شعرت مع هؤلاء الذين لم يكونوا قلة أبداً أن الذي بيننا لم يكن ثورة على الإطلاق، الحرب بدأت من هناك، من نظرات بعضهم وكلمات آخرين، كنت غالباً ما أحاول أن أقدم أوجاعهم على مشاعري، كثيراً ما أحترم كل الذي يكنونه لدمشق وأهلها، على الرغم من أنه لم يكن في يوم من الأيام منصفاً ولن يكون. ومع كل ذلك كنت دوماً في آخر الأمر أسمع منهم عن دمشق أنها المدينة المحسوبة على النظام والمستحقة لكل الموت متى صُبَّ عليها.
منذ بدء الهجمات على الريف الدمشقي كنت أحقد على كل لحظة يوقفني فيها حاجز ما في طريق عودتي إلى حرستا ويبتسم لي لأن هويتي كُتب عليها من دمشق أمام جميع من كان أعظم مصائبه في ذلك الوقت هو انتماؤه للريف، تماماً مثل ما كانت لعنتي هي دمشق في نظرهم!
كثيرون من أهل دمشق ارتبطت مصالحهم ببقائهم صامتين فيها، ولم يتمكنوا من دعم الثورة أكثر من دعمها مادياً، هذا شيء لا يمكننا نكرانه أو تأييده، ولا تجاهله كذلك، ولا أحد يعرف فعلياً أن من كان يدعم ويوصل الدواء الممنوع إلى الريف دمشقيات، ومن كان يملأ مخازن المشافي الميدانية بكل ما يملكه في صيدلياته كان من دمشق، وأن الذين شاركوا في إضراب الكرامة بأكبر أسواق دمشق وتعرضوا للضرب وتكسير محالهم كانوا دمشقيين، وأن جوبر بجيشها الحر وبتعبها الدائم دمشقية، وأن أمسيات كفرسوسة وصوتها العالي جداً دمشقية، وأن القابون وكل ما خلفته القذائف البشعة فيه دمشقي، وأن أكبر المظاهرات وأجملها التي انطلقت في المزة معقل النظام كانت دمشقية، وأن الميدان وتشييعات شهدائه التي لا تنسى دمشقي، وأن القدم وكل ما عاشه من ظلم وتهجير دمشقي، وأن المظاهرات الأولى في الحراك السلمي منذ البداية لم تترك شارعاً دمشقياً لم تمر به، والمظاهر السلمية التي جالت دمشق في ظل كل ذلك الأمن المشدد كانت بأيدي دمشقيين، وليس لأحد منهم منّة على آخر، لا أحد يدافع أو يزايد على ما قدمه للبلاد، لا أحد يحق له في هذا العالم أن يطالب كل واحد منا بكتابة ملخص لما قدمه للثورة، وليس علينا في كل مرة ينزل مصاب في دمشق بأن نقف شامتين ومزايدين وحراس!
دمشق مدينة تودع شهداءها صامتة، وتخبئ أسماء معتقليها من دون التصريح بهم خوفاً من أن يطال عائلاتها الباقية هناك موت جديد.
قالت لي إحدى الأمهات ذات يوم: “لا تقولي اسمو بصوت عالي يا راما ما بدي اخسر أخته متل ما خسرتو”، أما صديقتي فهي لا تصرح حتى اليوم بأسماء أخويها الشهيدين، لأن عائلتها كلها لم تزل في دمشق، وليس لهم مكان آخر يلجؤون إليه. وحتى هذا اليوم بينما تنعم أغلب المحافظات بخلاصها من الاعتقالات وبطش النظام، لا يزال النظام يعتقل من سكان دمشق وشبابها بصمت، من دون أن تُفتح لهم صفحات على مواقع التواصل، ومن دون أن يكون عملهم حتى محط اهتمام أحد روادها، لا أحد يعرفهم، لكن دمشق تحفظ أسماءهم جيداً.
صديقتي، ومنذ ما يقارب الشهرين، تعيش رعباً دائماً منعها من النوم لليالي متتالية أمام كل صوت يصدر عند شباكها، خوفاً من الاعتقال الذي بات قريباً جداً منها. أخبرتني في إحدى مكالماتنا الأخيرة: “راما لما موت ما تدعيلي الله يحميني، ادعي الله يقبض روحي بأسرع وقت، بس هيك!”، وصديقة أخرى استشهدت بعد عشرة أيام من التعذيب في أحد أفرع المخابرات بدمشق، لأنها محسوبة على ثوارها، في الحقيقة كانت دموعنا ودموع أحبائها تختلط بفرحنا لخلاصها.
أنا خسرت أقرب الناس من عائلتي وتم إقصائي من آخرين فقط لموقفي من الثورة وكي لا ألحق الضرر بهم، لكن ليس كل من فيها يحمل العار، كثيرون يحملون القهر والعجز مثلنا، دمشق اليوم يتيمة من دون أهلها، أغلبنا مهجّر أو معتقل أو شهيد وهي مليئة اليوم بأشباه النظام وأعوانه، دمشق لم تعد كما كانت ونحن لم نزل نتلقى مثلها الطعن في شرف الثورة في قلوبنا، ونحاسَب دائماً تحت قانون “أين كنتم منذ البداية”!
لن نفرح إن ودعنا عائلاتنا التي لم تزل هناك، لن يكون الفقد سهلاً علينا، لن نتجاوز قهر وجودهم الحتمي هناك وما هم مجبرون عليه، وفي الوقت نفسه، نحن لسنا مع صمت العاصمة ولسنا بأحق بالحياة ممن عاشوا الفقد قبلنا وقد ذقنا من ويله ما ذقنا، إلا أننا ننصف صوتها الذي كان عالياً رغم كل التشديد الأمني الذي تعرضت له.
التاريخ الثوري لمن لا يعرفه موجود على محركات البحث، من أراد معرفته فليبحث، أو فليصمت عن توجيه الاتهامات والاستهزاء بأوجاعنا، هذا الذي فينا من وجع لم يكن في يوم من الأيام خاصاً بدمشق، نحن يطالنا كل وجع يصب في كافة مناطق سوريا وكل ما يصيب أهلها، ونتحدث عنه دائماً، لكن صوتنا لا مكان له في هذا العالم ليبكي مدينته وأهلها إن احترقت، يحق لنا عندما تتألم دمشق أن نبكي أمّنا دون أن يزايد على ثورتنا وموقفنا أحد!
عذراً التعليقات مغلقة