مقدمة
بعد أن انتهت المعارضة السورية من استحقاق مؤتمر الرياض2 الذي انتهى بتغيير الهيئة العليا بهيئة تفاوضية جديدة، تضم منصة موسكو التي دأبت المعارضة السورية على رفض التحالف معها طوال سنوات بسبب موقفها الذي كثيرًا ما وصفته بالرخو والمتطابق في الكثير من جوانبه مع موقف النظام، وإعلان هذه الهيئة عن استراتيجيات وسقوف جديدة ليس فيها شرط تنحّي رأس النظام وحاشيته عن السلطة، مع إبدائها قدرًا من المرونة تجاه المشاركة في مؤتمر سوتشي الذي دعت إليه روسيا، وأجّلته حتى العام المقبل؛ انتقلت مباشرة إلى حضور الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف التي شدّدت الأطراف الدولية الراعية لها على ضرورة أن تبدأ خلالها المفاوضات المباشرة بين وفديّ النظام والمعارضة.
هذا التتالي الزمني والالتصاق بين مؤتمر الرياض2 والجولة الثامنة من مؤتمر جنيف، أثار لغطًا، خاصة في ما يتعلق بسرعة تشكيل الهيئة التفاوضية الجديدة، وانتقالها مباشرة إلى جنيف من دون تنسيق وتعارف عميق بين الأطراف المُشكّلة لها، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية، فإن البداية التي سبقت مؤتمر جنيف لناحية تردّد وفد النظام بالحضور إلى المؤتمر وتدخّل الروس لتمرير الأمر من دون أن يكون للهيئة أي موقف تجاه ذلك، لا تدعو كثيرًا إلى الاطمئنان.
لم تجرِ أي مفاوضات مباشرة في الجولة الثامنة من مؤتمر جنيف، كما لم يلتق وفدا النظام والمعارضة حتى في ممرات مبنى الأمم المتحدة؛ وبقيت المفاوضات رهينة الوسيط الدولي الذي ظلّ يتنقل من قاعة إلى أخرى حاملًا اقتراحات لم يوافق عليها بشكل جادّ أي من الطرفين، لا المعارضة ولا النظام.
أولًا: تركيز على الهوامش
خلال الجولة الثامنة لمفاوضات جنيف، ركّز المبعوث الأممي لسورية ستيفان دي مستورا على الهوامش أكثر من تركيزه على جوهر المفاوضات. فقد دعا عددًا كبيرًا من السوريين ليُشاركوا في ورشات عمل ولجان قانونية ودستورية ونسائية وأهلية وغيرها، استمرارًا لاجتماعات سابقة بالشكل نفسه وللغرض نفسه؛ واهتم بعضهم بكتابة الدستور، وبعضهم بوضع رؤية لقوانين التفاوض والمرحلة الانتقالية، وبعضهم الآخر ببحث الوسائل الناجعة لزيادة المشاركة النسائية، وغير ذلك. بينما من المفترض، وفق كل القرارات الدولية، ومن بينها بيان حنيف1 لعام 2012، والذي هو أساس هذه الاجتماعات المتتالية في جنيف، أن تكون هذه المهمات من شأن الهيئة الحاكمة الانتقالية التي من المفترض تشكيلها في بداية المرحلة الانتقالية، والتي سوف تعمل بدورها على اختيار الآلية التي سيجري بموجبها الانكباب على كتابة الدستور، وتشكيل اللجان المتخصصة التي يُمكن أن تشتغل على مسائل بعينها.
من غير المعروف على أي أساس يرتكز المبعوث الأممي في تشكيل لجانه المختلفة هذه، ومن هي الجهة التي فوّضته بكتابة مشروع الدستور والقوانين المكملة لسورية المستقبل، والتي من المفترض أن تكون نتاج المرحلة الانتقالية لا سابقة لها. هذا العمل الخلفي للمبعوث الأممي لم يُواجَه في الحقيقة باعتراض من طرفي المفاوضات، النظام والمعارضة، وفي الغالب سيواجَه برفض الطرفين فيما لو ترجمت هذه اللجان نتائجها إلى بنود يحملها المبعوث الأممي للأمم المتحدة في وقت لاحق.
في الهوامش أيضًا، راهنت موسكو على بحث ملفيّ الدستور والانتخابات، وهذا ما ركّز عليه دي مستورا في اللجان الجانبية، بينما راهن النظام على طهران وبكين لنقل التركيز إلى إعادة الإعمار والاستمرار في محاربة الإرهاب وتأجيل التسوية السياسية. ولم يُركّز أيّ طرف دولي أو إقليمي على ضرورة أن يكون بحث المبادئ السياسية للحل السوري بين المعارضة والنظام وكيفية البدء بتنفيذ بيان جنيف1 تدريجيًا، أولوية هذه الجولة من المفاوضات.
اللجان التقنية والاستشارية التي ابتدعها المبعوث الأممي، وأعدّت في وقت سابق كلّ الملفّات المطلوبة منها، يدعوها المبعوث الأممي من جديد في كل جولة من جولات جنيف لتدرس ما درسته سابقًا، في مسعى واضح لتضييع الوقت، ومحاولة طرح أفكار جديدة، وتحريف بعض الدراسات وفق ما ترغب الدول الكبرى، أو لمحاولة النجاح في الضغط الشديد على الوفد المفاوض، أو، ربما، حتى يكون الروس والأميركيون قد توصّلوا إلى صورة لحلّ القضية السورية.
تعترف الأمم المتحدة بأن القضية السورية معقدة وصعبة، وأن حلّها يجب أن يستند إلى توافق محلي وإقليمي ودولي؛ وتشدد في كل مرة على ضرورة حصول اختراق في جنيف، اختراق يكسر الركود والتكرار واللا واقعية؛ لكنها لا تتخذ أيّ قرارات من شأنها دفع العملية قدمًا نحو الأمام؛ ذلك أن الأمر يعتمد على مجلس الأمن، وهذا الأخير محكوم، بما يخص القضية السورية، ومنذ سبع سنوات، بالفيتو الروسي المتكرر، الذي استخدمته روسيا عشر مرات خلال سبع سنوات لتُعطّل أي قرار يُمكن أن يُسهّل الحلّ أو يوقف المأساة في هذا البلد.
جهد الأمم المتحدة، المطلوب والضروري في حالات الحروب والصراعات المُعقّدة، كالحرب السورية، لم يكن مُعطّلًا من قبل روسيا كثيرًا، ومحكوم بعدم اكتراث الولايات المتحدة أحيانًا فقط، وإنما تقزّم أيضًا منذ تعيين المبعوث الأممي، ستيفان دي مستورا، في حزيران/ يونيو 2014، الذي استلم ملفًا مُعقّدًا يبدو أنه ليس من مقاس الرجل الإيطالي، الذي استهدفه الإعلام الإيطالي بالانتقاد لأنه، وفق رأي هذا الإعلام، لم ينجح في أي مهمة دبلوماسية استلمها في بلده.
من المؤكد أن المبعوث الأممي لا يستطيع إيجاد حلول للقضية السورية التي باتت بيد الدول الكبرى، لكن كان بإمكانه، لو شاء، أن يتعاطى بجدّية أكبر مع المسار المرسوم له، ويُحدث تغييرًا في الشكل على الأقل، وليس في المضمون، كما فعل المبعوث السابق له، كوفي أنان، الذي أعلن صراحة عن الطرف الذي يقوم بتعطيل الحل، ويرتكب الانتهاكات، وبيّن كيف يمكن أن يكون الحل، ومن ثمّ، قدم استقالته بجدّية عندما أدرك أن ما يجري حول سورية عبثي؛ لكن موقفه الراسخ ولّد، بشكل أو بآخر، بيان جنيف1، الذي ارتكز في الكثير من أسسه على اقتراحات الرجل.
ثانيًا: ورقة في مواجهة ورقة
في بدايات الجولة الثامنة من مؤتمر جنيف، تقدّم المبعوث الأممي بوثيقة مبادئ لطرفي المفاوضات، النظام والمعارضة، وثيقة مُكررة ومُعدّلة، لم يجد فيها الطرفان ضالتهما في جولات سابقة؛ كما تقدّم وفد الهيئة التفاوضية التابع للمعارضة بوثيقة مبادئ للحل السياسي، فيها تقاطعات كثيرة مع وثيقة المبعوث الأممي، لكنها قوبلت بانتقادات كثيرة على اعتبار أنها ذات سقف منخفض، وتُركّز على قضايا هامشية، أو على قضايا غير مختلف عليها بين السوريين، ولم تدخل في صلب عملية التغيير السياسي، كما لم تُشر إلى المرحلة الانتقالية بوصفها مدخلًا لصوغ سورية الجديدة.
1- ورقة دي مستورا
تقدّم المبعوث الأممي لسورية، ستيفان دي مستورا، بورقة (مبادئ الحل السوري)، جرى التعارف على تسميتها بـ (اللاورقة) والتي اشتغل عليها سابقًا ورفضتها المعارضة، ووعدها أن لا يستند إليها في شيء؛ لكنّه تخلى عن وعده وقدّمها إلى مجلس الأمن كوثيقة يمكن البناء عليها ضمن الإحاطة الأخيرة التي تقدّم بها إلى المجلس.
ورقة (مبادئ الحل السوري) هذه التي تضمنت اثني عشر بندًا، سلّمها دي مستورا إلى الوفدين. وهي تشكّل تصوّره لمستقبل سورية بموجب القرار 2254، وتُؤكد الوصول إلى “دولة لا طائفية”، مع ضرورة وجود ممثلين للمجالس المحلية؛ إضافة إلى تثبيت عمل “الجيش الوطني” و”أجهزة الأمن” بموجب الدستور؛ وتضمنت إسقاط كلمة “العربية” من اسم “الجمهورية العربية السورية”؛ مع إقرار مبدأ اللامركزية الإدارية وحقوق الأكراد.
وتتضمن وثيقة دي مستورا ضرورة التزام سيادة واستقلال وسلامة ووحدة أراضي سورية من حيث الأرض والشعب، وحق السوريين في استعادة مرتفعات الجولان باستخدام الأساليب القانونية وفقًا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وحق السوريين في امتلاك حق تقرير مستقبل بلادهم بالوسائل الديمقراطية ومن خلال صناديق الاقتراع، وحقهم في اختيار النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الخاص بهم من دون ضغوط أو تدخلات خارجية، وأن تكون سورية دولة ديمقراطية وغير طائفية، تقوم على التعددية السياسية والمساواة في المواطنة بصرف النظر تمامًا عن الدين أو العرق أو النوع، مع احترامها لسيادة القانون ومبدأ فصل السلطات والاستقلال القضائي والمساواة الكاملة للمواطنين كافة، والاتسام بالحوكمة الشفافة والخاضعة للمساءلة.
كذلك تتضمن وثيقة المبعوث الأممي التزام الدولة الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والتنمية الشاملة والمتوازنة وفق التمثيل العادل في الإدارة المحلية، ومواصلة وتحسين أداء الدولة والمؤسسات الحكومية مع إجراء الإصلاحات عندما يلزم الأمر، وإقامة جيش وطني قوي وموحد مهمته حماية الحدود الوطنية وحماية الشعب من التهديدات الخارجية والإرهاب، في ظل وجود أجهزة الاستخبارات والأجهزة الأمنية للمحافظة على الأمن القومي وفق سيادة القانون والعمل بموجب الدستور والقانون واحترام حقوق الإنسان، ويكون استخدام القوة حقًا حصريًا للمؤسسات الحكومية المعنية والمختصة.
ثم أخيرًا، التزام مكافحة الإرهاب والتعصب والتطرف والطائفية، واحترام وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة، وتمثيل النساء في مراكز صنع القرار بـ 30 في المئة كحد أدنى، ثم مكافحة الفقر وتوفير الدعم لكبار السن والأيتام وضحايا الحرب، والمحافظة على/ وحماية التراث الوطني والبيئة الطبيعية.
2- ورقة المعارضة
مقابل ورقة المبعوث الأممي، طرحت الهيئة التفاوضية العليا التابعة للمعارضة السورية ورقة حل تتضمن اثني عشر بندًا أيضًا، قالت الهيئة إن منصة موسكو والقاهرة متفقه بشأنها ضمن الهيئة.
تنص وثيقة المعارضة على التزام سيادة سورية واستقلالها وسلامتها الإقليمية ووحدتها أرضًا وشعبًا، وعلى أن يقرر الشعب السوري وحده مستقبل بلده بالوسائل الديمقراطية عن طريق صندوق الاقتراع، ويكون له الحق في اختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي من دون أي ضغط أو تدخل خارجي طبقًا لميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن.
كما تنصّ على أن سورية ديمقراطية غير طائفية، دولة المواطنة المتساوية، والتعددية السياسية وسيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء والمساواة الكاملة والتنوع الثقافي وحماية الحريات العامة وحرية المعتقدات، مع ضرورة اتخاذ تدابير فعالة لمكافحة الفساد وسوء الإدارة، وهي جزء من العالم العربي، وتلتزم اللامركزية الإدارية، ويكفل دستورها إصلاح الجيش السوري على أسس وطنية ملتزمًا الحياد السياسي، وأن تكون مهمته حماية الحدود الوطنية ومكافحة الإرهاب، وإعادة هيكلة وتشكيل المؤسسات الأمنية بحيث تكون مهمتها الحصرية صيانة الأمن الوطني وأمن المواطن مع خضوعها للقانون.
وتشدِّد على أن الدولة السورية ستلتزم عدم التمييز والمساواة في الحقوق والفرص بغض النظر عن العرق أو الدين أو الإثنية أو الهوية الثقافية أو اللغوية أو الجنس، وتضمن تمثيل النساء في المؤسسات ودوائر صنع القرار بما لا يقل عن 30 في المئة وصولًا إلى المناصفة، وعلى أن يضمن دستورها الحقوق القومية للمكونات، ولغاتهم لغات وثقافات وطنية، واعتبار القضية الكردية جزءًا من القضية السورية، وإلغاء السياسات التمييزية التي مورست في حق الأكراد، وإعادة الجنسية للمجردين ومكتومي القيد. وأخيرًا يؤكد مبدأ المساءلة والمحاسبة على ما ارتُكب ويُرتكب من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حقّ السوريين بموجب القانون الجنائي الدولي.
ويُلاحظ أن هناك تقاطعًا في الكثير من البنود والمبادئ بين الوثيقتين، وبعض الاختلافات في الاهتمامات والتركيز في بنود أخرى. ولم تُشر المعارضة في وثيقتها إلى عدم مشاركة رأس النظام وكبار رموزه في مستقبل سورية، القريب أو البعيد، كذلك لم تُشر إلى الهيئة الحاكمة الانتقالية كمدخل للوصول إلى الحل السياسي الذي تُنشده.
3- ورقة النظام
اتّهم رئيس وفد النظام، بشار الجعفري، المبعوث الدولي بـ “تجاوز ولايته” بسبب تقديمه ورقة المبادئ السياسية قبل أن يقوم وفد النظام بتسليمه ردودًا على وثيقة سابقة قُدمت في آذار/ مارس الماضي، بينما لم تنتقد المعارضة ما فعل دي مستورا، وسلّمته ورقتها لمبادئ الحل السياسي.
سلّم وفد النظام ردوده (وثيقته) إلى المبعوث الأممي، ولم تُنشر بنود هذه الوثيقة بناء على طلب من وفد النظام، لكن بحسب مصادر مطلعة، فإن الوثيقة تجاهلت الانتقال السياسي وركزت على “مكافحة الإرهاب ومؤازرة الجيش والقوات المسلحة في مكافحة الإرهاب”، إضافة إلى بنود تتعلق بـ “وقف تمويل ودعم الفصائل عبر الحدود”، والمطالبة برفع العقوبات، و”عقد مؤتمر لإعمار سورية من دون شروط”، و”الحفاظ على مؤسسات الدولة ومرافقها وحماية البنى التحتية”.
هذا التركيز على إعادة الإعمار هو مسعى من النظام لتجاوز مرحلة الحرب التي لم تنته بعد، وإبعاد شبحها الذي ما زال مستمرًا، على الرغم من ضعف “المعارضة العسكرية” وإفلاسها، يُشكّل تهديدًا له، خاصة مع رفض الولايات المتحدة الاعتراف بانتصاره، ورفضها الاعتراف بشرعيته، أو إقرارها بإمكانية استمراره. والتركيز على إعادة الإعمار، هو موقف روسي أيضًا، يتقاطع مع رغبة إيرانية وصينية، وهو ملف يحوم حول النصف تريليون دولار، ويتناقض تمامًا مع موقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية، التي رفضت بشكل قاطع مناقشة إعادة الإعمار، وربطته بـ “الحل السياسي الجدي، الذي يُفضي إلى انتقال سياسي حقيقي، يمكن أن يحظى بتأييد أغلبية السوريين”، وفق تصريح وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، في أيلول/ سبتمبر الماضي في عقب التواصل مع وزراء خارجية ثماني عشرة دولة عربية وغربية.
لم يكتف النظام بورقته عالية اللهجة، بل انتقد المبعوث الأممي لأنه قبل واستلم وثيقة المعارضة، ولم يُلزم الهيئة التفاوضية بالتراجع عن موقفها السياسي من المطالبة بخروج بشار الأسد “عند بدء المرحلة الانتقالية”. وقال: “هذا شرط مسبق، في وقت يُفترض أن تكون المفاوضات فيه من دون شروط مسبقة”.
إذًا، في الجولة الثامنة من جنيف، صار لدى الأمم المتحدة ثلاث وثائق (ورقات) متضاربة، تعكس الرؤى المتناقضة للأطراف، لكنها لا تحوي جديدًا، فهذه الرؤى لم تتغير منذ الجولة الأولى لجنيف، وتزداد تنافرًا لا تقاربًا، ولم تستطع خمس سنوات من مؤتمرات جنيف تقريب وجهات نظر الأطراف، ولم تتوصل حتى إلى توافقهم على أسس ومرجعيات الحل. فالنظام ما زال متمسكًا ببنود لم تتغير منذ انطلاق الثورة، تُختصر بأن ما جرى “مؤامرة” يجب أن تنتهي كلّيًا، يليها “مكرمة” بإمكانية إشراك المعارضة السورية في الحكومة (لا في السلطة)، عبر “حكومة وحدة وطنية”، يترافق ذلك مع اعترافها من جديد بأحقية شخوص النظام الحالي في البقاء على رأس هرم السلطة لأجل غير محدّد، وشجّع النظام على التمسك بهذا الموقف الدعم الإيراني بداية، ثم الروسي تاليًا، كما سّهل عليه المضي من دون تغيير عدمُ اكتراث الولايات المتحدة وعجز الغرب.
وحدها المعارضة التي تضطّر إلى أن تكون براغماتية قدر الإمكان، وأن تتعامل بواقعية سياسية. لكن هذه البراغماتية والواقعية السياسية أدّت إلى نتائج سلبية، تمثّلت بتنازلات جزئية بطيئة إلزامية؛ فشرط تنحي الأسد ورموز نظامه قبل المفاوضات، باعتبارهم مجرمي حرب، والذي كانت تصرّ عليه، تحوّل إلى تنحيه بعد المفاوضات وقبل بدء المرحلة الانتقالية، ثم إلى توصية وليس شرطًا؛ كما أن شرط وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار قبل بدء المفاوضات كدليل حسن نيات إلزامي، لم يعد شرطًا بعد أن قبلت المعارضة بدء المفاوضات من دون شروط مسبقة؛ كذلك بدأت أسس بيان جنيف1 تتخلخل حتى لدى المعارضة، خاصة بعد إدخال منصة موسكو إلى الهيئة العليا للتفاوض مع بعض الشخصيات “المعارضة” التي ترى أن الحل قد يكون في موسكو أو أستانا أو سوتشي، وليس في جنيف، ما سيؤثر بديهيًا في قرارات الهيئة العليا وموقفها من جنيف.
ثالثًا: انتقادات
يُلاحظ أن ورقة المبعوث الأممي لم تُشر لا من قريب ولا من بعيد إلى مسألة تغيير النظام الحالي، ولا إلى أي فكرة تُقارب فكرة “الهيئة الحاكمة الانتقالية” كاملة الصلاحيات التي نصّ عليها بيان جنيف1 والقرارات الدولية التالية، ولم تُحدّد أي سقوف زمنية لعملية التغيير السياسي، واكتفت بالإشارة إلى ما يوحي بضرورة القيام بإصلاحات في الحكم، وثبّتت وجود الأجهزة الأمنية، ولم تشدّد على ضرورة إصلاحها أو تغيير بنيتها، كما تركت لهذه المؤسسات الأمنية ولمؤسسات الدولة الأخرى، والتي ما زال النظام يُسيطر عليها بالكامل، حصريًا، الحق في استخدام القوة في سورية.
كذلك لا تتضمن هذه المبادئ ما يُشير إلى ضرورة وقف إطلاق النار، وفك الحصار عن المناطق التي يُحاصرها النظام، وضرورة إدخال المساعدات الإنسانية والطبية إلى المحتاجين من دون قيود، ولم تنص على إطلاق سراح المعتقلين وإفراغ السجون، وجميعها بنود تمهيدية، أقرّ المجتمع الدولي في أكثر من قرار أنها بنود إلزامية لتأكيد حسن النيات، وليست جزًءا من البنود القابلة للمساومة أو الخاضعة للمفاوضات.
ولم تُشر وثيقة دي مستوار إلى بيان جنيف1 الذي يُعقد مؤتمر جنيف لتنفيذه، ولا إلى الهيئة الحاكمة الانتقالية ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة، والتي تتألف من طرفي المفاوضات، المعارضة والنظام ومعهم شخصيات مستقلة حيادية، وتقود المرحلة الانتقالية التي يوضع خلالها الدستور وتُصلح بإشرافها الأجهزة الأمنية ويتشكل فيها جيش وطني، إلى حين استقرار البلاد وإقرار دستور جديد فيها وإجراء انتخابات رئاسية.
أما الوثيقة التي تقدّم بها وفد المعارضة المفاوض، فقد تعرّضت لانتقادات من قبل الكثير من المعارضين السوريين الذين وصفوها بأنها “لا علاقة لها بالثورة وثوابتها”، وفيها تنازل والتفاف على المرحلة الانتقالية بأكملها، وطالبوا الوفد المفاوض بالمزيد من الشفافية والتمسّك بمطالب الثورة. واعتبر كثيرون أن الورقة تعترف بـ/ وتُشرّع النظام، ولو بشكل جزئي، وتتخلى عن شرط تنحيته، كما تتخلى عن شرط وجوده في سورية المستقبل، وتقبل ضمنيًا بمشاركة أركانه في المرحلة المقبلة، بغضّ النظر عن جرائم الحرب التي ارتكبوها.
ثار جدل أيضًا حول وثيقة الهيئة التفاوضية العليا، التي تعكس أيضًا موقفيّ منصتي موسكو والقاهرة، خصوصًا لجهة إسقاط كلمة “العربية” من اسم “الجمهورية العربية السورية”، إضافة إلى إقرار مبدأ اللامركزية قبل استفتاء السوريين. وأثارت الوثيقة أيضًا ردودًا في أوساط وفد المعارضة أدت إلى تعديل نقاط في المسودة الأخيرة التي قُدمت، لجهة تأكيد “عروبة” سورية، إضافة إلى تأكيد الوفد أنه لم يبحث الانتقال السياسي لأن هذا متروك للمفاوضات، وأن الحديث يجري حاليًا حول مستقبل سورية.
وبالنسبة إلى وثيقة النظام، فقد تضمنت مطالبَ تتوافق فقط مع ما يريده النظام، من دون الأخذ في الحسبان أي مطلب من مطالب المعارضة، بل تجاهلت وجود حرب وأزمة وطنية، وأن سورية مرّت بحرب قضت على ما يُعتقد أنه وصل إلى مليون من الضحايا، وهجّرت نصف سكان سورية، ودمّرت أكثر من 60 في المئة من البنى التحتية.
تحاول جميع الأطراف الضغط على المعارضة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بحسن نيّة أو بسوء نيّة. فالروس ضغطوا لتقبل بضم منصة موسكو وشخصيات أخرى من “الحمائم” إلى الهيئة العليا للتفاوض، ونجحوا، ويضغطون بكل الوسائل من أجل إقناعها، أو إلزامها سحب بند رحيل الأسد من بيان الرياض 2، أو على الأقل تجميده، وكذلك عدم مناقشته نهائيًا في الجولة الثامنة من مؤتمر جنيف أو أي جولة مقبلة، ويضغطون كذلك لتليين موقفها الرافض لمؤتمر سوتشي الذي تريد روسيا عقده في أوائل العام المقبل، وتسعى من أجل أن يكون بديلًا عن جميع المؤتمرات السابقة بما فيها جنيف، عبر صيغة “مؤتمر وطني” ينتج عنه توافق بين السوريين، لا يحتاجون بعده إلى جنيف أو غيره.
كذلك تضغط الدول “الحليفة للمعارضة” بشكل غير مباشر، من خلال تمرير بعض المطالب الروسية، أو تخفيف الدعم، العسكري والمادي والسياسي. كما أن عدم اكتراث الولايات المتحدة بالمعارضة ومطالبها وأهدافها هو نوع آخر من أنواع الضغوط عليها، وحتى الدول الأوروبية بدأت تضغط عليها للتراخي باسم الواقعية السياسية.
رابعًا: أمل مفقود
خلال ثماني جولات من مؤتمر جنيف ومحاولات التسوية، وما بينها من جولات أخرى لمؤتمرات أخرى، في بروكسل وموسكو وأستانا وغيرها، لم يكن النظام مستعدًا لتقديم تنازلات تسمح بتوسيع المشاركة السياسية حتى ضمن حدودها الدنيا، وبقي متشبثًا بالحل العسكري والحربي، متعاملًا مع المعارضة، سواء المنتفضين المدنيين أو المعارضة السياسية أو الفصائل العسكرية، كإرهابيين، لا يعترف بوجودهم ولا بأي شيء من مطالبهم، وأصرّ على القضاء على “المؤامرة الكونية” وفق تعبيره.
استند النظام في رفضه أي تسوية، وتعطيل أي مفاوضات، وتخريب أي مبادرة، إلى قوة عسكرية تحصّل عليها من إيران بشكل ميليشيات طائفية عابرة للحدود، إيرانية وعراقية وأفغانية ولبنانية وغيرها، وإلى دعم عسكري وسياسي روسي كبير، وتعامل مع الحالة السورية على أنه منتصر، من دون أن يُحاول التفكير في أن ثباته ليس انتصارًا وليس بفضل قوته وبأس قواته، وإنما بفضل الدعم الروسي والإيراني بشكل أساسي، فكانت المحصلة المزيد من التشدد تجاه المعارضة بأشكالها كافة، ورفض كامل لأي تسوية سياسية متوازنة، ورفض كامل لأي إصلاح جذري، هذا مع الحديث طبعًا عن رفض كامل للتغيير السياسي الشامل.
أفشل النظام كل جولات جنيف السبع الماضية، وأغرق المعارضة والمبعوث الأممي المُشرف على هذه المفاوضات بالتفاصيل، وماطل، وحاول تغيير أولويات التفاوض، وتفريغ كل (الجنيفات) من محتواها عبر إدراج مسألة الحرب على الإرهاب كبند وحيد فيها، كما ركز دومًا على عدم شرعية وفد المعارضة. وعملت روسيا على دعم معارضة رخوة، أصرّت طوال سنوات على إدخالها ضمن الوفد المفاوض، ونجحت في ذلك بعد مؤتمر الرياض2 الذي عُقد في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ونجح بفضل الدعم الروسي له، وحوّل أنظار المجتمع الدولي عما ارتكب من جرائم حرب، ومن نضال شعب ضد حكم ديكتاتوري شمولي طائفي، أخاف الغرب بفتحه الباب في سورية أمام كل التنظيمات الإرهابية الطائفية، ما حوّل المعركة في نظر الغرب، بشكل عام، إلى معركة ضد الإرهاب.
العارف بطبيعة النظام القائم في سورية يُدرك تمامًا أنه لن يقبل، لا في جنيف ولا في غيره، تقديم أي تنازل، وسلوكه في جنيف يُعزز هذه الفرضية والقناعة لدى الكثيرين، على المستوى المحلي والدولي، ويُعزز فرضية أنه نظام غير قابل للإصلاح والارتقاء، ويُؤكد أنه غير نادم على كل ما قام به خلال سبع سنوات من الحرب الطاحنة.
كان يُعتقد أن دي مستورا يُراهن على تدخّل موسكو وعواصم غربية أخرى لإنقاذ المفاوضات، وللدخول في جوهر المفاوضات المباشرة وبحث مبادئ الحل السياسي والانتقال لبحث ملفي الدستور والانتخابات، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، وبقيت المفاوضات تراوح في مكانها، وسط عدم اكتراث من وفد النظام، وتقطّع في الحضور، وغياب أخّر كثيرًا الجلسات التفاوضية.
لكن يبدو أن موسكو ليست جادّة في ما تقول، وأن تصريحات مسؤوليها ذرّ للرماد في العيون، وأنها أيضًا تراهن على مؤتمر سوتشي لـ “الحوار الوطني” المرتقب عقده في بدايات عام 2018، كما راهنت سابقًا على مؤتمر أستانا، بتطويع المعارضة أكثر وأكثر، تحت إشراف روسي- إيراني- تركي، مع أملها في أن يحلّ هذا المسار مكان كل المسارات السابقة، وعلى رأسها مسار مؤتمر جنيف.
خامسًا: أساسيات لا بدّ منها لمؤتمر لا بدّ منه
1- المعارضة
تتعرض المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، لضغوط، من أكثر من طرف. واختُرقت مؤخرًا بمنصات ميّالة لطروحات النظام وأساليبه، واستُبعد من الهيئة التفاوضية العليا التابعة لها شخصيات معارضة صاحبة تجربة، وبدأت روسيا تُمارس ضغوطًا حقيقية لجعلها تتراجع عن شرط تنحّي الأسد عن السلطة سواء في المرحلة الانتقالية أو بعدها، كذلك تسعى لإفشال جنيف لجرّ المعارضة إلى مؤتمر سوتشي، الذي سيجمع 1500 من السوريين فيما يشبه “العرس”، والذي ستضيع فيه حقوق، وتتغير مبادئ، وينتهي دور الأمم المتحدة.
في الحقيقة، تعرض الوفد المفاوض، في الجولة الثامنة من مؤتمر جنيف، لضغوط من روسيا وبعض الدول الأوروبية، ومن المبعوث الأممي أيضًا، ومن أطراف إقليمية وعربية، للتراخي، ووجدت هذه الضغوط آذانًا صاغية لدى عدد من أعضاء الوفد الواحد وغير الموحد، لكنها قوبلت بالرفض من طرف قادة الفصائل العسكرية وبعض رموز المعارضة السورية، وهو ما منع تمريرها.
ضمن هذه الأحوال والأوضاع، يبدو أنه على المعارضة السورية، وخاصة الوفد التفاوضي التابع للهيئة التفاوضية العليا، أن يستمر بالتمسك بثوابت لا بدّ منها، ولا يُمكن إيجاد حلّ عادل للقضية السورية من دونها، وهي مبادئ مقبولة في الوقت نفسه من المجتمع الدولي، وتشمل الانتقال السياسي السلس في سورية من نظام شمولي عسكري طائفي إلى نظام وطني ديمقراطي ومجتمع ديمقراطي تعدّدي، وعلى رأسها:
- التمسك بأن الحل للقضية السورية هو بيان جنيف1 لعام 2012، والذي أعلنته القوى الكبرى، وباركته القوى الإقليمية الأهم.
- التمسك بتشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة، وفق ما نص عليه بيان جنيف1.
- التمسك بـ “إجراءات حسن النيّة” التي فرضها القرار الأممي 2254، والمطالبة بتنفيذها فورًا وقبل البدء بالمفاوضات المباشرة، خاصة أنها مفروضة ولا علاقة لها بمسار المفاوضات.
- التمسك بشرط رحيل الأسد التدريجي والإلزامي بعد تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية، التي ستسحب وفق بيان جنيف كامل الصلاحيات من يده.
- التمسك بمقاطعة مؤتمر سوتشي لما يحمله من مخاطر تُهدّد بيان جنيف وغيره من القرارات الدولية.
- التمسك بمطلب الإصلاح الجذري للأجهزة الأمنية، ودمجها وتغيير مهماتها، وإخضاعها للقانون، بإشراف وضمانة الدول الكبرى، فور تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية.
- الاستفادة من خبراء سوريين ودوليين كفؤين كمستشارين في كل مراحل المفاوضات، بدلًا من الاتكاء على وفد استشاري لا يمتلك شيئًا من الكفاءات والخبرات التفاوضية، ولا الدراية الكافية في أنظمة الحكم، والعلاقات والمصالح الدولية، ولا المعرفة ببنى النظام السوري وأسس تفكيكه.
التخلي عن هذه الشروط، أو بعضها حتى، يهدِّد المعارضة بالابتعاد عن الأهداف التي وضعها السوريون لثورتهم، ويضعها في وضع مأزوم تجاه السوريين، كما سيُقرّب النظام من الانتصار الذي طالما منّى نفسه به.
2- الأمم المتحدة
يُدرك السوريون أن المفاوضات ليست بين طرفين، المعارضة والنظام، بل صارت مفاوضات بين أطراف عديدة، ضاغطة ومؤثرة في الوضع السوري، تتشابك مصالحهم وتلتقي أحيانًا وتتعارض وتتنافر في الكثير من الأحيان، أطراف مباشرة وغير مباشرة، وتُشكّل قوى ضغط على النظام والمعارضة؛ وإدارة هذه المفاوضات المعقدة ومتعددة الأطراف تحتاج إلى كفاءة عالية، لا توفرها الأمم المتحدة للملفّ السوري، ما يُعرّض الهيئة الأممية لانتقادات وللتقليل من أهميتها كمؤسسة دولية ذات صدقية وقدرة.
يبدو أنه على مؤسسات الأمم المتحدة، القادرة على التغيير جزئيًا في مسارات الصراع في العالم، أن تبذل جهدًا أفضل وأكثر واقعية وعملية في الملف السوري، وعلى رأس هذا الجهد وضع برنامج واضح ودقيق ومجدٍ لمبعوثها الأممي لسورية، ووقف تدخلاته الشخصية الخالية من الجدوى والتأثير، والعبثية في بعض الأحيان، أو أن تقوم بتعيين لجنة من شخصيات دولية ذات صدقية وخبرة، لتقوم محل المبعوث الحالي الذي استنفذ أربع سنوات من مهمته من دون أن يستطيع وضع أي بصمة إيجابية، ولو صغيرة، على أي ملفّ فرعي. ومن دون ذلك، من المرجح أن يكون الملفّ السوري البرهانَ العملي والدامغ على العجز التام لهذه المنظمة الأممية التي من المفترض أن تكون صمام أمان دولي.
3- الدول الكبرى
يبدو مؤتمر جنيف للمراقب كساحة للمناكفة الروسية- الأميركية، فروسيا تسعى لتهميش هذا المؤتمر الذي أنتج قبل خمس سنوات بيانًا متوافقًا عليه دوليًا، يؤدي إلى نهاية حتمية للنظام السوري فيما لو طُبّق، بينما تريد الولايات المتحدة استمراره، لكنها تريده أن يستمر من دون أن ينجح في الوقت الراهن، ذلك لأنها لا تستعجل الحل، وتُفضّل أن يبقى الملفّ السوري مفتوحًا؛ لكن هذه الساحة المفتوحة تمنع وضع حدّ للمأساة السورية التي أنتجت مشكلات إقليمية ودولية متعددة الأشكال والخطورة، ليس أولها تنظيم الدولة الإسلامية، وانتشار وتكاثر الميليشيات الطائفية المدعومة من إيران، ولا مشكلات اللجوء والنزوح، ولا الإرهاب العابر للحدود من وإلى سورية؛ واستمرار هذه الساحة مفتوحة للمناكفات سيولّد مخاطر أخرى في المدى القريب والمتوسط.
من واجب الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة وروسيا، أن تحل مشكلاتها بعيدًا من تدمير الدول والشعوب، ذلك أن ما تقوم به في سورية من تحدٍ ومساومات واستعراض قوى واتفاقيات جزئية طيّارة متحولة، سيُنتج مشكلات جديدة، قد لا تكون على شاكلة المشكلات التي شهدتها سورية خلال السنوات السبع الماضية، وستؤثر في الإقليم كله؛ وعلى هذه الدول الكبرى أيضًا، خاصة أن وجودها المادي العسكري بات أمرًا واقعًا في سورية، وأذيتها ممكنة، وسقوطها في وحل سوري تُحاول هي ذاتها إنتاجه بات أيضًا أمرًا ممكنًا، أن تقرر وضع حدّ للمماطلة في جنيف والبدء بتطبيق بيان جنيف1 بحذافيره وبسرعة مدروسة.
من واجب الدول الكبرى أيضًا، أن تحترم مبادئها والتزاماتها ودساتيرها، خاصة لجهة حقوق الإنسان ومصالح الشعوب ومصائرها، واحترام الاتفاقيات والعهود، والعمل على الحدّ من انتشار إرهاب الدولة والأنظمة، والابتعاد من استخدام أراضي الغير كساحات مبارزة دولية، واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومنع الدول المارقة ذات المشاريع القومية والدينية والاحتلالية من التدخل في شؤون الغير؛ ومن دون ذلك، فإن هذه الدول تُسهم في تدمير المنطقة بأسرها وتاريخها ومستقبلها معًا.
سادسًا: خاتمة
تتواتر جولات مؤتمر جنيف، سعيًا لإيجاد حل سياسي للقضية السورية الشائكة، ويشارك فيها، إضافة إلى المعارضة والنظام والأمم المتحدة، لاعبون محليون وإقليميون ودوليون، ولو بصورة شكلية رمزية، وتكثر الاقتراحات والوثائق والطروحات، وترتفع المناورات الدبلوماسية والرهانات المتنـاقضة، وتسود موجة من التفاؤل في كل مرة تُعقد فيها جولة جديدة من هذا المؤتمر، لكن لم يصدر أيّ قرار عملي تنفيذي، أو نتيجة إيجابية ملموسة، عن الجولات السابقة، والجميع يُركّز على مكافحة الإرهاب، وينسى جوهر المأساة السورية، وأولوية تغيير النظام السياسي وفق ما اتّفقت عليه الدول الكبرى عام 2012 في جنيف، ضمن ما يُعرف باسم (بيان جنيف1)، وتبقى الحلقة مُفرغة ومن دون نتيجة، ويعمل الجميع على تركيب حلول تجميلية ترقيعية موقّتة، وحتى في هذه لا ينجحون.
منذ الجولة الأولى لمؤتمر جنيف عام 2012، وحتى اليوم، لم يتغيّر موقف النظام من المفاوضات، واستمرّ في التعامل معها بطريقة من العبث المطلق راسخة وثابتة، ولم يقبل أن ينتقل بها لبعض الجدّية، حتى الشكلية منها، بينما تغيّرت المعارضة تغيّرًا جذريًا، فقد تراجعت على المستوى العسكري، وخسرت داعميها الإقليميين، وأُجبرت على تغيير تركيبتها، وإدخال أطراف رخوة، ترتبط بصورة مباشرة بروسيا، وبصورة غير مباشرة بالنظام، مستعدة لتقديم تنازلات سياسية لا محدودة؛ لكن، مع هذا، تبقى المعارضة مُمثلة ولو نظريًا لمطالب شريحة عظمى من الشعب السوري المتضرر من الحرب والرافض للنظام والراغب في التغيير السياسي والأمني، والمتضرر من ممارسات نظام الأسد الأب والإبن طوال خمسة عقود، وهذا في حدّ ذاته يمنحها قوة وشرعية.
من المرجّح أن تستمرّ جولات جنيف، سواء فشلت كليًا أو جزئيًا، ففي بيان جنيف1 وحده جوهر الحلّ، الذي يضمن انتقالًا سياسيًا في سورية، ويضمن تحوّل سورية من دولة تخضع لنظام شمولي أُسري طائفي تمييزي، إلى دولة وطنية ديمقراطية تؤمن بقيم الإنسانية والمواطنة وحقوق الجميع المتساوية. لكن على المعارضة السورية أن تتخذ مواقف صلبة في جنيف، لا أن تتنازل تدريجيًا، فمن يتخلى عن حقّ، يسهل عليه التخلّي عن كل الحقوق، وهذا ما لن يغفره ضحايا الاستبداد المجرم.
عذراً التعليقات مغلقة