لا شك أن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة تشكل تحولا مهما على صعيد موازين القوى، سينعكس بشكل واضح على عموم الشمال والشرق السوري.
لكن انتهاء المعارك في مدينة الرقة أعاد إحياء السؤال الكبير المطروح منذ فترة، وهو: ما دور المدينة -ومن ثم المحافظة- ضمن خريطة النفوذ العسكرية للقوى الإقليمية والدولية في الشمال السوري؟ وما هو مستقبل المدينة السياسي في ظل تصارع حاد بين الفرقاء المحليين والدوليين؟
الرقة وموازين القوى
ليست لمحافظة الرقة أهمية إستراتيجية بالنسبة “للاتحاد الديمقراطي الكردي” كما هو حال الحسكة وبعض المناطق في أرياف حلب ذات الأغلية الكردية، فالمحافظة تفتقر إلى الوجود الكردي إلا بنسبة قليلة جدا، وبالتالي ليس لها ثقل في عملية إعادة بناء الكينونة السياسية الكردية، وتثبيت الحضور السياسي الكردي في هذا المفصل من تاريخ الأكراد بسوريا.
وتكمن أهمية المحافظة -بالنسبة للاتحاد الديمقراطي وأذرعه العسكرية- في أنها الجسر الجغرافي الوحيد الرابط بين الحسكة شرقا وعين العرب/كوباني وعفرين غربا، على الصعيدين العسكري والاقتصادي.
وتضاعفت هذه الأهمية مع حصول متغيريْن عسكرييْن، الأول دخول تركيا إلى إدلب، وتموضع قواتها على مشارف عفرين، والثاني الاختراقات السريعة للجيش السوري في محافظة دير الزور.
ويبدو من هذه المعطيات أن مرحلة التمدد العسكري لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شارفت على الانتهاء، ويمكن القول إن الإرهاصات الأولية لاحتواء الوحدات الكردية وتقليص نفوذها بدأت، والرسالة التركية في إدلب واضحة.
فعملية الانتشار العسكري للقوى التركية تشير إلى أن الهدف الكبير لأنقرة هو احتواء تمدد الأكراد في مرحلة أولى، ومن ثم دفعهم إلى التراجع في مرحلة ثانية إن توفرت التفاهمات الدولية والمحلية بشأن ذلك، فضلا عن الرسائل المبطنة والصريحة التي أطلقها النظام مؤخرا “للاتحاد الديمقراطي الكردي”.
وأمام هذه المعطيات؛ استعجلت “قسد” إنهاء المعارك في مدينة الرقة بعد استنزاف دام أربعة أشهر، وما عملية نقل مقاتلي تنظيم الدولة إلى خارج المدينة إلا تعبيرا عن الرغبة السريعة في إنهاء المعركة لتعزيز وجودهم في دير الزور وفي عفرين، لتفادي أو مواجهة أي تطورات عسكرية مفاجئة.
وقد أدرك الأكرادُ التناغمَ الحاصل مؤخرا بين أنقرة ودمشق بشأنهم، وأن هذا التناغم قد يفضي إلى تفاهم يمنح من خلاله الأتراك فرصة لتوجيه ضربة للوحدات الكردية، مقابل تحميل أنقرة ثمن التعامل مع “هيئة تحرير الشام” في إدلب. ومن هنا يبدو أن محافظة الرقة ستكون من نصيب “قسد” دون أن تكون ضمن الإدارة الذاتية للأكراد (أي منطقة “روج أوفا”).
ففي ضوء تزايد التنسيق بين أنقرة وموسكو في الغرب، وسيطرة الجيش السوري على مدينة دير الزور والميادين وصولا إلى البوكمال؛ لا تبدو الولايات المتحدة في وارد التخلي عن الرقة لقوى لا تتبع أجنداتها. غير أن خصوصية الرقة -بحكم هيمنة المكوّن العربي السني فيها- تجعل السيطرة عليها تأخذ أشكالا معقدة.
مستقبل المدينة السياسي
إذا كانت مرحلة محاربة تنظيم الدولة تتطلب تغليب البعد الكردي في معادلة الرقة؛ فإن مرحلة ما بعد التنظيم تتطلب تغليب البعد العربي، أو على الأقل تقوية البعد العربي، كي لا تخضع المحافظة لتأثيرات إثنية قد تفجر الوضع المحلي.
هذه المعادلة يدركها حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” وأذرعه العسكرية جيدا، وقد أعلن أكثر من مرة أن المحافظة لن تكون جزءا من مشروع الإدارة الذاتية (روج أوفا).
لكن هذا لا يعني التخلي عن المحافظة، وإنما محاولة شرعنة السيطرة عليها بأدوات فوق عسكرية بسبب غلبة المكون العربي فيها، ولذلك يعمل “الاتحاد الديمقراطي” على اختراق البنى العشائرية وإدماجها في المجالس المحلية، خصوصا مجلس الرقة المدني. واستسلام عناصر التنظيم -بُعيد مفاوضات مع العشائر العربية- دليل أكيد على الصلة التي تربط العشائر بـ”قسد”.
تحاول “قسد” خلق وقائع سياسية على الأرض تشرعن بها وجودها العسكري في الرقة، وقطع الطريق على تركيا والنظام اللذين يحاولان منذ أشهر اختراق البنى العشائرية لمواجهة الهيمنة الكردية. وتريد “قسد” تحييد المحافظة عن الصراعات المحلية والإقليمية عبر جعلها محافظة محايدة.
حتى الآن لا تزال الصورة غامضة، لكن ثمة مؤشرات تدل على أن أهالي المحافظة من العرب هم الذين سيحكمون المحافظة، وهو ما أكده أكثر من مسؤول أميركي منذ أشهر.
طبعا الولايات المتحدة أذكى من أن تعطي المحافظة لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي”، خشية حدوث فتنة إثنية بين العرب والأكراد التابعين “للاتحاد”، إلا أن السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه هو: من هي القوى العربية التي سيناط بها حكم المحافظة؟ وما هي أجنداتها السياسية؟
من الواضح إلى الآن أن هذه القوى لن تكون تابعة للأجندة التركية، فواشنطن لا تزال تخشى حدوث فائض في القوة التركية بالشمال السوري ينعكس سلبا على الأهداف الأميركية التي لا تتضمن إسقاطا للنظام السوري، ولا تعزيز القوة العسكرية لفصائل المعارضة، خصوصا تلك التي تحمل أجندات إسلامية وإن كانت معتدلة.
أغلب الظن أن المحافظة ستؤول إلى قوى عربية ذات أجندات متباينة، يجمعها هدف إعادة الحياة المدنية للمحافظة وجعلها محايدة عن الصراعات السياسية/العسكرية، بحيث يقبل الجميع بذلك.
هذه المعادلة يبدو أنها تحظى بدعم أميركي، فقد نشرت وكالة “رويترز” قبل أيام تصريحا لمسؤول أميركي قال فيه إن واشنطن “لا يمكن أن تدعم مشروعا سياسيا لحزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية (قسد)، للتوسع في الرقة وعموم تلك المنطقة من البلاد، وأن بلاده لن تدعم مشروع “قسد” وحزب صالح مسلم لإدارة تتمتع بالحكم الذاتي”.
لكن هذه التصريحات تتعارض مع تصريحات المبعوث الأميركي إلى التحالف الدولي بريت ماكغورك أثناء جولاته إلى المجالس واللجان المحلية في الرقة ودير الزور، حيث أعلن أن التحالف جاد في دعم مجلس الرقة المدني الموجود بعين عيسى، وسيحصل على ما يحتاجه ليساهم في إعادة دورة الحياة إلى طبيعتها بالمناطق المحررة.
وما يزيد المفارقة هو الحضور السعودي اللافت عبر مرافقة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثائر السبهان لماكغورك في جولاته على المجالس المحلية. ويأتي هذا الحضور تتويجا للتغير الكبير الحاصل في الموقف السعودي من عموم الملف السوري، وتبنيه شبه الكامل للموقف الأميركي.
صحيح أن الحضور السعودي سيكون لصالح المكون العشائري العربي، لكنه يأتي ضمن العباءة الكردية، وهذا تحول كبير وله نتائج سلبية، لأنه يشرعن بطريقة ما الوجود الكردي في المحافظة، ويرفع حدة التوتر مع تركيا؛ إنها رسالة سعودية واضحة لأنقرة بأن الرياض قادرة على الوصول إلى الشمال السوري والحدود التركية.
ويبدو من هذه المعطيات أن الولايات المتحدة تفتقر إلى إستراتيجية واضحة حيال التعامل مع الرقة في مرحلة ما بعد استعادتها من تنظيم الدولة، ويبدو أن الأمور منفتحة على احتمالات كثيرة، لكن ما هو ثابت إلى الآن هو أن “قسد” لن تخرج من المحافظة.
حدود الموقف التركي
لم تعد محافظة الرقة ضمن الاهتمامات الإستراتيجية لتركيا، وليس ذلك بسبب عدم وجود مصالح تركية في المحافظة؛ بل لأن الولايات المتحدة وإلى حد أقل روسيا، وضعتا خطا أحمر أمام طموحات أنقرة في المحافظة.
ولذلك عمدت تركيا منذ أشهر إلى اتباع سياسة اللعب من خلف، عبر تشكيل تكتل عشائري عندما استدعت ممثلين لنحو خمسين عشيرة إلى الاجتماع في تركيا، لبحث إمكانية تشكيل قوى عربية محلية تقف أو تحدّ من السطوة الكردية.
لكن يبدو أن هذه الخطة فشلت لأسباب عديدة، أهمها إدراك العشائر أن الفاعل الأوحد في المحافظة هو واشنطن وحلفاؤها المحليون.
وعليه؛ فقد بدأ الموقف التركي يتغير ويبحث عن أهداف قابلة للتحقق، ومن هنا كان الاهتمام بالشمال الغربي لسوريا في حلب وإدلب، وباتت الخطة التركية تركز على ضرورة منع الأكراد من الوصول إلى البحر المتوسط، تمهيدا للهدف الثاني المتمثل في فك الترابط الجغرافي بين كانتون عفرين وكانتون عين العرب/كوباني.
أما الرقة، فلن يكون أمام أنقرة سوى محاولة إقناع واشنطن بضرورة تخفيف القبضة الكردية، ومنح القوى المحلية دورا أكبر. لكن تركيا -التي تمارس السياسة في سوريا ضمن إطار فن الممكن- تدرك جيدا أن الساحة السورية قابلة للتغير بشكل مفاجئ وسريع.
ويبدو أن مرحلة التصادم بين الوحدات الكردية والنظام بدأت تقترب، ومن شأن ذلك أن يفتح أمام تركيا بوابة تفاهم جديد قد يُسفر عن تحالف الضرورة بين أنقرة ودمشق بمباركة إيرانية/روسية لتحجيم القوى الكردية.
عذراً التعليقات مغلقة