تعاد صياغة جغرافية سورية والعراق وفلسطين، وربما الأصح، يعاد تشكيلها، ذلك أن مخرجات الصياغة، في الغالب، تكون بقالب جميل وصنعة محترفة، في حين أن خرائط المنطقة تعبث بها يدُ حدّاد خشنة، أصبحت لاحقاً ورش حدادة، أدواتها الأساسية أفران الصهر ومطارق غليظة لتطويع الجغرافيا وليّها، بما يتناسب وتشكيل أطقم جغرافية على مقاسات عرقية وطائفية، وتلبية لحاجات مشاريع جيوسياسية ومطامح إستراتيجية، وحسب الطلب أيضاً.
وليس ثمة معيار لهذا التشكل سوى معيار القوّة، إذ على الرغم مما يقال عن تصحيح للجغرافيا وتعديل للخلل الذي صنعته المواثيق الناظمة لجغرافيا المنطقة وحدودها، أكثر من قرن مضى، فإن ما يحصل يتجاوز المظلومية التاريخية إلى نمط من النهيب والاستباحة، ما دامت القوة متوفرة. وبمعنى أدق، ما دام هناك طرف ضعيف “العرب السنّة”، وأرض سائبة فلا حدود مرسومة سلفاً، بل العمل وفق قاعدة قرصانية قديمة تقول إن من يصل أولاً يحصل على الحصة الأكبر، هل يمكن تفسير السباق على دير الزور وكركوك خارج هذا المنطق؟
وليس مهماً طبيعة القوة وبنيتها، كما ليس مهما عقيدتها وأيديولوجيتها. وحدها النتائج تستحق التقييم، ومساحة الجغرافيا المتحصّلة ومدى فائدتها هي العنصر الأكثر وزناً في تقييم مقدار قوّة هذا الطرف وتأثيره وشرعيته، وأمام إغراء الجغرافيا، وعلى عتبتها، نزعت أطراف الصراع “الإقليمية والدولية والمحلية” قناع شعاراتها وقيمها، وانخرطت في صراع الفرصة وصياغة الشعارات التي تناسبها، فلم يكن مستغرباً أن يُعاد ترسيم طريق، طرق، القدس في كل شارع وقرية في سورية، أو أن يتحوّل الغضب الأميركي على انتهاك حقوق الإنسان في سورية إلى مجرد قاعدة عسكرية في التنف، لتوضيب الحصة الأميركية من الجغرافيا السائبة.
على ضوء ذلك، بات يمكن اليوم رؤية المشهد من جميع جوانبه بوضوح، بعد التخلص من تأثير البروباغندا، السياسية والإعلامية، فقد جرى إشغال المنطقة بمزيج من صراعات سياسية وطائفية وعرقية، لإنتاج مشهد فوضوي معقد، تشكّل السيولة الجغرافية أحد أبرز مخرجاته، أو بما يشبه فرن الحداد، وقد وُضعت فيه جغرافية سورية والعراق وديمغرافيتهما تحت درجة صهر عالية.
وقبل ذلك، كانت هذه البقعة قد مرّت بمرحلة ذوبان للنخب السياسية، أنظمة ومعارضات، وكأن تطويع الجغرافيا يلزمه موت السياسة في نواحيها، ذلك أن التدخلات الخارجية واقتطاعات الجغرافيا تمّت تحت قاعدة عدم قدرة أطراف الصراع الداخلية على إدارة أزمتها، فلا السلطات عرفت كيف تتكيف مع المستجدات السياسية، وتدمج مطالب الثورة في بنية أنظمتها، عبر منظوماتها السياسية والإدارية، ولا الثورات استطاعت اختراق الدولة العميقة، والوصول إلى نواتها الصلبة، وكل ما فعله الطرفان هو الارتماء في حضن الخارج، لتخليصه من أزمة الداخل، وتحصيل بعض المكاسب الآنية.
وفي ظل موت الوطنية، لم تعد الجغرافيا بمعناها الوطني (أرض لأبنائها) عزيزة على قلوب اللاعبين المحليين، بعد أن احتلت مكان تلك المساحة الوطنية في العقول والوجدان العقلية الثأرية والانتقامية من الطرف الآخر الذي تتوجب إزاحته من المكان، وليس مستغرباً أن يتنبأ تقرير أميركي أن سورية ستتحول إلى “دولة بدون شعب!”، بمعنى أنها قابلة لأن تتحول إلى قواعد وممرات ومرافئ وحراس أجانب، فيما ستكون طاردة لشعبها، ستكون دولةً رائعة للاستثمار الجيوسياسي، لكنها غير صالحة للسكن والحياة بالنسبة لشعبها، ففي وقتٍ من المتوقع أن تتعفن مناطق الدمار، وتصبح ملاعب للجرذان، وستزدهر القواعد العسكرية وطرق نقل الإمداد الإيراني التي ستتحول إلى أتوسترادات حديثة. وينطبق الأمر على العراق، حيث تذوي المدن وتتقهقر، فيما تزدهر حقول النفط والغاز وتنتعش طرق وموانئ نقلها.
المشكلة أن صناع التشكيلات الجديدة ليسوا على قدر من الاحتراف، كما كان عليه الأمر في نهاية الحرب العالمية الأولى، كما أن الظروف تغيرت كثيراً، وإذا كان الفرنسيون والبريطانيون اشتغلوا بأريحية أكبر، ومن منطلق انتصارهما المتحقّق في الحرب، فإن أطراف صياغة الشرق الأوسط، روسيا وإيران وحتى إسرائيل، يتميزون بالقلق والتوتر وعدم الثقة بانتصارهم.
وبالأصل هم دخلوا إلى هذه الأزمات، ليحققوا رتبة الأطراف المعترف بها ولم يدخلوها، وهم يمتلكون هذه الصفة نهائياً.
يجري في فلسطين تطويع الجغرافيا على البارد، وفق خطة شاملة ودقيقة، تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، عبر استيلائها على مساحاتٍ صغيرة حول القرى والمدن، وإخراجها من نطاق الملكية العربية، ولكن بشكل حثيث، يعتمد أسلوب التراكم وإغلاق كل المنافذ أمام الفلسطيني، لحثّه على البحث عن خياراتٍ خارج فلسطين.
ثمّة من بات يسأل عن الحاجة للجغرافيا إذا كان لا أفق فيها سوى ضمانة الحصول على قبر في البلاد التي كانت يوماً ممتلئة بأهل وأحبة رحلوا، وغالبيتهم لن تعود، وما فائدة جغرافيا لا طعم فيها للوطن، بل مجرد أداةٍ بيد حاكم أصبح، في الغالب، وكيلاً لمشغّل خارجي؟ وفي ظل تكالب الأمم على جغرافيا بلادنا، وحدها الأوطان لا بواكي عليها. بات شركاء كثيرون يقولون في العلن، أعطونا حصتنا من الكرم، وارحلوا عنا، لم نعد نريد العيش معكم. ويطلب آخرون منا الرحيل بوصفه منحةً منهم في مقابل السماح بالنجاة بأرواحنا، أما نحن، فلم نجد حتى اللحظة التوصيف المناسب لهذا الذي يحصل، أهو موت للجغرافيا أم ازدهار لها؟
عذراً التعليقات مغلقة