نكأ وصف مهدي دخل الله المعارضة بالعملاء واشتراطه تقبيلهم أحذية جيش الأسد، لتقبل توبتهم وتسمح لهم سورية الأسد الديمقراطية بالعودة لحضن الوطن. نكأ جروح قصص قديمة، عايشتها مع هذا الكائن، إذ عملنا لأربع سنوات بجريدة البعث سوياً، وقت كان رئيس تحريرها، ومن ثم خلال تنصيبه وزيرا للإعلام.
سآتي على واحدة فقط، لما لها من مدلولات بدأت تتكشف أخيراً، ربما لم تكن بكامل وضوح الأهداف حيذاك، وقت عاد دخل الله من الرياض عام 2011، التي لم يعد وجوده كسفير فيها مرحب به.
جاء دخل الله الجريدة مساء لزيارة المدير العام، لكنه مرّ إلى مكتبي “لنحكي” كما قال، وكانت الثورة في بداياتها الصوفية الجميلة والواعدة، وفعلاً حكينا كثيراً وكعادتي بالمباشرة، وأحياناً الفجاجة، قلت للدكتور مهدي ما أراه وإلى ما ستؤول إليه سورية، فيما لو استمر القمع والحل الأمني.
رد وقتذاك على نحوٍ عصبيّ قلما رأيته عليه، رغم تعاملنا لنحو عقد من الزمن “عدنان أنت مفكر أهل سرمين وبنش بدن حرية، هدول بشر متخلفة ومدفوعون من الخارج”. وهكذا من هذه الألفاظ والتخيّلات المبنية على فوقية واستهتار بالشعب، وأذكر تماماً حينما حاولت محاججته، أن هذا الشعب من حقه العيش بحرية وديمقراطية “شتم وغادر مكتبي” على نحو عبّر خلاله عن عكس كل ما ادعاه، من تحرر وانفتاح وتحرر، قبل أن يشتريه النظام.
قصارى القول: بالأمس، انتشر كلام مهدي دخل الله، لسوئه وغرابته، كالنار بالهشيم، بين أوساط السوريين عموماً، ومجتمع المعارضة على نحو خاص، ويعود انتشار تصريح المهدي، لأسباب كثيرة، ربما ما بدأ يشاع عن عودة بعض “المعارضين” لحضن الأسد أهمها.
فالمدير العام والوزير والسفير السابق، وعضو القيادة القطرية رئيس مكتب الإعداد والثقافة والإعلام الحالي، قال وعبر مقالة بجريدة “البعث”، حول تسامح النظام مع المعارضين التائبين “عود هؤلاء من ملاجئ الخيانة، لأن أسيادهم وجدوا فيهم استثماراً خاسراً، وأنهم وإن لم يشاركوا بالأعمال القتالية، لكنهم القتلة الحقيقيون، هم طباخو الفتنة في مطبخ روبرت فورد ونتنياهو، وهم الذين شاركوا مشاركة فعالة في الحرب الإعلامية والسياسية على سورية… إنهم الذين تضرعوا لأميركا كي تدخل دباباتها إلى دمشق دون أن يعلموا أن حلمهم حلم إبليس بالجنة”.
وخلص العضو بالقيادة القطرية إلى القول “إن كانت سورية تريد أن تكون متفوقة في الحكمة والتسامح، يمكن أن تقبل عودتهم على شرط أن يقبّل هؤلاء “التائبون” .. “بصطار”(البوط العسكري) الجنود السوريين أمام وسائل الإعلام”، مشيراً وبحسب المقالة في جريدة “البعث”، إلى أن “هذا البصطار” فيه من الشرف والوطنية أكثر ما في أدمغة المعارضين”.
خلاصة القول: حقيقة الأمر، ثمة كثير ما يحكى حول هذا التصريح، لكني ركزت على بعض النقاط، تاركاً للقارئ التعمّق والتحليل، مشيراً في البداية إلى أن توبة بسام الملك “عضو الائتلاف المعارض السابق” لسيده بشار الأسد، لم تقبل بعد، وما زال الملك في مصر ينتظر الرحمة والغفران من المجرمين بدمشق، عن معارضته الشكلانية التي أدى خلالها دوره الوظيفي، بحنكة واقتدار.
أول هام وأهمه، كلام دخل الله، هو التعبير الحقيقي عن ذهنية العصابة الأسدية برمتها، أطلقه عضو القيادة القطرية للحزب الحاكم، دونما رتوش وتجميل، فما قاله هو لسان حال جميع الأسديين، وإن بالغرف المغلقة أو وراء الكاميرات، بل ويزيدون عليه بألفاظ ووعيد، ربما فات دخل الله ذكرها، من قبيل التطييف والتخوين وضرورة الإبادة لئلا يخرج من أصلابهم معارضون جدد لحافظ الثاني، إذ لو سمع حافظ الأول كلام رفعت ومن في حكمه، من وجوب إبادة جماعية مثل التي حصلت في حماة، لما خرج هؤلاء بوجه بشار.
ثاني هام، أكد العضو دخل الله، وبمنتهى الصراحة، أن سورية مزرعة وكل من فيها أو خرج منها رعايا، لابد لهم وليقبلهم ربّها، أن يستميحوه عذرا ويقبّلوا أحذية الجيش العقائدي.. وبعدها يفكر، هل يصفح أو يقتلهم تحت التعذيب بجريمة وهن نفسية الأمة والتحريض على بعض مكونات الشعب، وبذلك تنتفي جميع الادّعاءات التي أطلقتها سورية الأسد، من مصالحات، بل وتضع مطلقيها، وفي مقدمتهم وزير المصالحة الوطنية “المعارض السوري القومي” علي حيدر، في موقع الكذاب والأداة الرخيصة لاستجرار السوريين والتغرير بهم.
وأما الهام الثالث والذي يمكن استخلاصه من كلام دخل الله، فإن سورية بشار الأسد، لم تتعلم من كل ما حل بها وبالسوريين، بل ما زالت عقلية بعث الستينيات والسبعينيات، المبنية على القتل والاعتقال، لكل من يخالف رأي القائد ماثلة، رغم تهجير نصف السكان وقتل واعتقال نيف ومليون سوري ووصول كلف حربهم على الثورة والسوريين، أكثر من خسائر الحرب العالمية الثانية.
ولعل الدليل على بقاء تلك العقلية الإقصائية، يتجلى بوضوح من خلال اعتماد الأسد الوريث، على دخل الله وأمثاله، من عقول مبنية على مبدأ الحدية، لا يمكن أن تتعدى بتفكيرها الأحذية والقتل، أو العيش كعبيد تسبح بحمد قائد المسيرة والتطوير والتحديث.
ربما، بالنهاية، من العبثية محاججة دخل الله وشاكلته، إن بأسباب وصول سورية لهاهنا، أو حتى بوصول قائده للحكم واستعصائه على الكرسي التي رمى سورية بمن فيها وعليها إلى أتون الفناء كرمى للبقاء عليه.
لأن المواطنة والعيش بحرية وكرامة، مفاهيم غريبة وصعبة الدخول إلى قواميس هؤلاء الذين استمرأوا الذل والعبودية؛ فعقولهم المزدحمة بالأحذية، لا تتسع لتداول السلطة وحسن توزيع الثروة وحقوق الشعوب بتقرير مصيرها.
عذراً التعليقات مغلقة