نويد أحمد
لا شيء أكثر إثارةً للقلق من امتلاك روسيا قاعدة في الخليج العربي خلال عقد. تخيلوا سيناريو قيام حاملة طائرات روسية بجولات قرب المياه الإقليمية لدولة قطر ومملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة. ماذا عن التدريبات المشتركة بين كل من القوات البحرية الروسية، والإيرانية والعمانية، ضد كل ما قد يرغبون في تسميته تهديد القراصنة، أو حصار مضيق هرمز؟ سيشق القادة الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون الطريق للروس باعتبارهم مساهمين رئيسيين في الشرق الأوسط، تماماً كما فعلوا في سورية. وعلى ما يبدو، فإن هذا العرض على وشك أن يبدأ، وفي غضون خمس إلى ثماني سنوات في أحسن الأحوال.
يمكن فك رموز هذا اللغز من خلال تدقيق النظر في خريطة إيران، فقد حلم الفرس منذ عهد حكم سلالة القاجار بربط بَحَر قَزْوِينْ بالبحر العربي الرحب. ولم يعد صمود القناة الاصطناعية رود إيران (تعني نهر إيران) في وجه التضاريس الصعبة والتحديات البيئية أمراً خيالياً، بل أصبحت بمثابة خطة تأمين جيوسياسية لطهران. كما هو الحال مع مضيق البوسفور في تركيا وقناة السويس في مصر التي تعد أمثلة حيةً كمرتكزات جيواستراتيجية واقتصادية سياسية دائمة في المنطقة.
وعلى غرار إيران، تجد روسيا الطريق للوصول إلى الموانئ الدافئة سهلاً أيضاً. وبما أنه قد تم رفع عقوبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن إيران، وأصبح شعور الإيرانيين بقوميتهم عالياً، فإن وقت الاستراتيجية الروسية – الفارسية الكبرى قد حان أخيراً. وقد عمل النهج العملي لتحقيق المصالح الجيواستراتيجية والجيواقتصادية، على حد سواء، منذ تولي آيات الله السلطة في إيران.
“على دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصا السعودية، إذا ما أرادوا تحقيق أهدافٍ عملية، أن ينقلوا تركيزهم على القوات الجوية إلى إمكانيات بحرية متقدمة”
شرع المهندسون الإيرانيون المتخصصون في الهيدرولوجية بالتفكير جدياً في “قناة الأحلام” في السبعينيات من القرن الماضي. ومثل البرنامج النووي الإيراني، فقد أعاق آية الله الخميني هذا الحلم الفارسي أيضاً. وبدأت طهران بإعادة إظهار اهتمامها بالخطة ـ المُحبطًة ـ القاضية بوصل بَحَر قَزْوِينْ بالخليج العربي مع حلول منتصف التسعينيات من القرن الماضي. وتم تخصيص أموال لإجراء دراسات الجدوى، وتقييم القدرات المحلية لتنفيذ هذه المهمة الضخمة. إيران اليوم واثقة من أن هذا المشروع قد يكتمل بالاعتماد على الخبرة والمال المحليين.
تُقدَّر تكلُفة هذه القناة الملاحية الممتدة عبر القارات بمبلغ ضخم، يعادل سبعة مليارات دولار، ومن المرتقب الانتهاء منها بحلول عام 2020 على أقرب تقدير. جغرافياً، اكتشفت إيران خيارين: الأول، خيار طريق الغرب، على الرغم من أنها أقصر بـ 600 كيلومتر، وإذا ما قامت ببناء قناة عميقة، واسعة بما يكفي، لاستيعاب حاويتين للغاز الطبيعي المسال، أو سفن الشحن الضخمة، لكي تمرّ في وقت واحد، فمن اللازم نحتها في جبال صخرية، يصل علوها إلى ألفي متر. ويرجع قِصَرُ هذه القناة إلى امتدادها على خريطة إيران تقريباً، مثل خط مستقيم بين ساحل بحر قزوين وساحل آخر في منطقة الخليج. ولم يؤثر عدم توفر المال لإجراء دراسة جدوى رسمية على طهران، ولا حتى قليلا. لكن إيران راهنت على الخيار الثاني، أي الطريق الشرقية بطول حوالي 1600 متر. وسيكون الجزء الصعب، إلى حد ما، هو نحت قناة المياه في جبال يزيد ارتفاعها عن ألف متر، وتمتد على أكثر من 150 كيلومتراً. وعلى أمل توظيف أفضل للتقنيات الهندسية المتاحة، فإن طهران لا تتنافس للحصول على الممر البحري للجيش والنشاط التجاري فقط. ولكن، أيضاً، لاستخدام مياه بحر قزوين، والتي هي أقل ملوحةً من المتوسط العالمي بالثلث، في سقي الأراضي القاحلة في البلاد، من خلال القنوات والقناطر والسدود والخزانات. وإيمانا بتنبؤ وكالة ناسا أن ظاهرة الاحتباس الحراري قد تؤدي إلى زيادة منسوب المياه في بحر قزوين، يعتقد الإيرانيون أن القناة الكبرى سوف تساعد على التخفيف من التحدّي، باستخدام 20% من المياه الزائدة في السقي.
تشير دراساتٌ متاحة إلى أنه سيتم توظيف نحو مليوني شخص في مرحلة البناء. ومع نشاط ميناء يقدر بـ 70 مليون طن سنوياً، فقد ينافس ساحل القناة على الخليج دبي أو هونغ كونغ مستقبلا. ومن المرتقب أن تكون قناة الفرس الكبرى أطول وأعمق من كل الممرات المائية التي بنيت بشكل مصطنع؛ بما في ذلك السويس والقنوات الصينية الكبرى. كما يطرح هذا المشروع الضخم تحدياتٍ خطيرة، لعل من أبرزها نقل بلدات بأكملها في شمال محافظة غُلستان. ويتمثل التحدي الرئيسي الآخر في التصدّعات الجيولوجية النشطة والمميتة بسبب الأضرار الهيكلية واسعة النطاق التي تعرفها. وقد يؤدي بناء خزانات المياه الضخمة والممرات المائية في المناطق المضطربة جرّاء الزلازل إلى تفاقم الكوارث الوشيكة الحدوث. ويُنظر إلى سد الممرات الثلاثة الصيني مثالاً لزيادة معدل الزلازل هناك، لكن بِكين لا تصدّق هذا الأمر بطبيعة الحال. وتظل إيران الأقل ميلاً إلى النقاش المفتوح، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمشاريع الخطرة أو المكلفة، والهادفة إلى الهيمنة الإقليمية أو المكانة الوطنية.
إيكولوجيّا، قد تكون مياه بحر قزوين الأقل ملوحةً من البحار الأخرى، لكنها تظل بعيدةً عن الجودة التي يتطلبها معيار السقي. أضف إلى ذلك هجرة الحياة البحرية في بحر قزوين، وتأثيرها على المخلوقات المائية في الأنهار الإيرانية. ويعد قنديل البحر أحد المخلوقات الكلاسيكية التي هاجرت من البحر الأسود إلى بحر قزوين، عبر نهر الفولغا-دون في روسيا. وكان للحيوان الشفاف تأثير مدمر على حياة الكافيار وسمك الكيلكا في غضون عشر سنوات. ومن المحتمل أن تُعرِّض القناة الفارسية العظمى الخليج والبحر العربي لخطر قنديل البحر القاتل.
“تُقدَّر تكلُفة هذه القناة الملاحية الممتدة عبر القارات بمبلغ ضخم، يعادل سبعة مليارات دولار، ومن المرتقب الانتهاء منها بحلول عام 2020 على أقرب تقدير”
سيكون على إيران، أيضاً، أن تنظر في الأثر البيئي للدخان الكثيف المتصاعد من السفن العملاقة. كما أن القناة تشكل أكبر خطرٍ على الصحة، على طول الطريق من المنطقة الشمالية إلى الساحل الشرقي الجنوبي على الخليج.
ترويض الدب الهائج
كانت إيران حليفاً قوياً للولايات المتحدة خلال معظم فترات الحرب الباردة. لكنها تحولت إلى الروس مع قدوم آيات الله إلى السلطة بعد ثورة 1979. وأصبحت العلاقة بين طهران وموسكو أكثر قرباً مع اندلاع الحرب مع العراق. ناهيك عن أن إيران الخالية من العقوبات تتلاءم تماماً مع مخطط الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إحداث نظام عالمي جديد، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط .ومنذ مدة وروسيا تعتقد أن إيران تشكل أفضل طريق للوصول إلى منطقة الخليج، وراء بحر قزوين. ولذلك، سيحصل الكرملين على بطاقة رابحةٍ، إذا ما وافقت طهران على مد يد المساعدة له. فإذا ما تم له ذلك، ستتمكن روسيا من أن تصبح شريكاً مالياً وتقنياً لإيران، عند بناء القناة العملاقة، كما أن طهران لن تجد حرجاً في الاستفادة من استثمار موسكو ومساعدتها التقنية في المشروع. وعلاوة على ذلك، قد تحصل طهران على اتفاقٍ متبادلٍ يقضي باستغلالها قناة الفولغاـ الدون، من أجل أغراض بحرية عسكرية وتجارية، تجوب ما بين شواطئ بحر قزوين والبحر الأسود.
وقبل ذلك، على روسيا وإيران أن تتفقا على كيفية استغلال بحر قزوين، وقضايا أخرى، فمنذ الحرب الأولى بين إيران وروسيا، والتي استمرت حتى 1813، وإلى حدود معاهدة الصداقة المشتركة سنة 1921، ثم اتفاق الملاحة والتجارة سنة 1940، كان ولا يزال اهتمام طهران الكبير مرتبطاً بكيفية استغلال بحر قزوين.
وبالإضافة إلى إيجاد حلول لبعض القضايا الشائكة مع روسيا، ما زال على إيران أن ترضي حاجيات بلدانٍ أخرى مجاورة، تتقاسم معها مياه بحر قزوين، كأذربيجان، وكازاخستان، وتركمنستان. وقد أبانت أذربيجان عن معارضتها القوية فكرة بحيرة الفرس العظمى، من خلال تصريحها إن هذه الفكرة لا تتماشى ومقتضيات القانون الدولي.
ومبدئياً، تدّعي كازخستان أنه، وبما أن بحر قزوين متصل ببحار مفتوحة أخرى، كالبحر الأسود، عبر قناة الفولغا دون، وبحر البلطيق، عبر نهر الفولغا، فإنه يعتبر بحراً مفتوحاً عوض اعتباره بحيرة فقط. ثم إن ألماتا (عاصمة كازخستان) ليست في وضعيةٍ تسمح لها بتحدّي موقع روسيا التي تعترض على تطبيق معاهدة الأمم المتحدة المتعلقة بقانون البحار. وفي هذه الحالة، سيتحتم على كل دولة مطلة على بحر قزوين أن تمتلك 12 ميلاً بحرياً كمياه إقليمية، و24 ميلاً كمنطقة تابعة، و200 ميل كمنطقة اقتصادية خالصة.
وإذا كان بحر قزوين محمياً بمقتضى قانون البحار، فقد تصبح قناة الفولغا دون ممرّاً مائياً دولياً، بشكل تلقائي. وسيتعين على روسيا أن تستعد لجميع التحضيرات والظروف، من أجل الحفاظ على مرور آمن لجميع باخرات الدول المطلة على بحر قزوين، تماماً مثل ما تفعل تركيا في مضيق البوسفور. (وعلى الرغم من عدم احتمال وقوع سيناريو كهذا، إلا أننا قد نتوقع أن تصل دول مجلس التعاون الخليجي إلى القناة الإيرانية، خصوصا مع غياب أي قيود قانونية تمنع ذلك). وإلى الآن، لم تحسم روسيا مسألة ما إذا قزوين بحر أم بحيرة، لكن المؤكد أنه سيبقى خزان ماء فريد من نوعه، لن تتنازل عليه بسهولة، خصوصا في عهد بوتين.
وقد وافقت روسيا سنة 2003 على التوقيع على اتفاقية بيئة بحر قزوين مع أربع دول تتقاسمه معها، تهدف إلى المحافظة على بيئة بحر قزوين، وإعادة إحيائها، وعلى الحد من التلوث، وعلى إدارة المناطق الساحلية. كما أنها تعمل تدريجياً على تبادل حقوق استغلال بحر قزوين، مع الدول الأخرى المطلة عليه، وإن سيأخذ ذلك بعض الوقت.
“بما أن قانون البحار يشمل بحر قزوين، فسيمكّن للدول المطلة عليه، ولدول مجلس التعاون الخليجي، أن يمارسوا حقوقاً متساوية على القناة الفارسية العظمى”
لا تنتج عن الاتفاق الروسي الفارسي حول التعاون الاستراتيجي في الخليج آثار سلبية، قد تبدو نوعاً ما خطيرة. فلدى دول مجلس التعاون الخليجي دبلوماسية تفاعلية. ولو كانت لدى هذه الدول خطط استباقية عن التدخلات الخارجية في كل من العراق واليمن، لكانت شبه الجزيرة الخليجية أكثر استقراراً.
على دول مجلس التعاون الخليجي أن تتناول هذه المسألة، من خلال استراتيجية متعدّدة الجوانب. أولاً وقبل كل شيء، عليها أن تتواصل دبلوماسياً مع الدول المطلة على بحر قزوين، والتي لم تكن تعطي لها أهمية كبرى. وقد سبق لدول آسيا الوسطى المطلة على قزوين أن رفعت مراراً أصواتها، محذّرة من كوارث بيئية في المنطقة، فلدى الروس سجل تاريخي من الكوارث البيئية، خصوصاً طريقة استغلالهم بحر آرال (استهلك أكثر من 80% منه لأهداف سقاية). فإذا تمكنت دول مجلس التعاون الخليجي من أن تستثمر دبلوماسياً من أجل ضم كل من أذربيجان، وكازاخستان، وتركمنستان، فقد يمكن ذلك من تعضيد المقاومة القانونية، والسياسية، والدبلوماسية في المحافل الدولية. وقد أحدث المزج بين مياه البحر الأسود ومياه بحر قزوين، بسبب قناة الفولغا دون، تداعيات سلبية على الحياة البحرية. وتبقى المشطيات متهماً واحداً تم تحديده، وتشير تقارير محلية إلى وجود متهمين آخرين. لذلك، يحتاج بحر قزوين إلى تمويل كبير من أجل الأبحاث البيئية والمناخية.
وعلى دول مجلس التعاون الخليجي تشجيع أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان، من أجل تسريع بدء تطبيق قانون البحار. ومعلوم أن مثل هذه الخطوة ستواجه معارضةً روسية صارمة، لكن مثل هذا النظام سيضمن حقوقاً متساويةً لكل دولة مطلة على بحر قزوين، للوصول إلى موارد قاع بحر قزوين.
وبما أن قانون البحار يشمل بحر قزوين، فسيمكّن للدول المطلة عليه، ولدول مجلس التعاون الخليجي، أن يمارسوا حقوقاً متساوية على القناة الفارسية العظمى، كما هو الحال مع قناتي البوسفور والسويس. ومثل ما يقع مع تركيا، قد يكون في وسع إيران أن تمنع المرور البحري لبلد معين، عند نشوب حربٍ ما.
وسيتمكن تكتل ست دول وباكستان المجاورة، ودول مجلس التعاون الخليجي، من تبني مقاربة أكثر حمائية تجاه الخليج العربي، من خلال التذرع بالمخاطر المناخية والبيئية في الأمم المتحدة وفي غيرها من المحافل الدولية. وقد تتمكن دول مجلس التعاون من حشد دعم عالمي، في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وحلفائهم في آسيا وأفريقيا ضد القناة الفارسية. وإذا ما أصبحت القناة جاهزة للاستعمال، لن تكون هناك أي طريقة قانونية لوقف حركة السفن الروسية عبر إيران، أو إنكار قاعدة حربية في الخليج، إذا ما وافقت طهران على ذلك. وعلى دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصا السعودية، إذا ما أرادوا تحقيق أهدافٍ عملية، أن ينقلوا تركيزهم على القوات الجوية إلى إمكانيات بحرية متقدمة، وفي مقدمتها ترسانة الغواصات وقدراتها على الكشف، وأنظمة الدفاع الساحلي المتكاملة المستقبلية. تعزيز التحالف العسكري الذي يضم 34 دولة اليوم سيخدم مدة طويلة دول مجلس التعاون الخليجي، بقيادة الرياض.
المصدر: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة