روجت «هيئة تحرير الشام» فكرة إدارة مدنية لكامل الشمال المحرر بعد تمكنها من كسر شوكة حركة «أحرار الشام» الإسلامية، ممثلا بسيطرتها على معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، والاستيلاء على معسكرات هامة ومستودعات تابعة لها، إضافة إلى إجبار العديد من ألوية «أحرار الشام» على مبايعة قائد «الهيئة» هاشم الشيخ.
وفي السياق، اجتمع أعضاء من مكتب العلاقات العامة في «هيئة تحرير الشام» مع عدد من الفعاليات وبعض قادة الفصائل في ادلب، والتقوا أعضاء في مجلس محافظة ادلب في محاولة لبلورة أفكار شراكة لم تلق ترحيبا من مجلس المحافظة. وطلب المجلس تسليمه بناء محافظة ادلب واعتراف «الهيئة» بتبعية مجالس المدن والبلدات إلى مجلس محافظة ادلب الحرة.
وتصر الهيئة على ألا تضيع «النصر» (العسكري والمعنوي) الذي ربحته بعد تحديد قوة «أحرار الشام» وتحجيم دورها. فسارعت إلى إعلان عزمها تشكيل «إدارة مدنية» توضع القوى الأمنية تحت تصرفها و»تتفرغ القوى العسكرية لثغور المسلمين». حسب بيان «الهيئة».
ورحبت حركة نور الدين الزنكي بذلك البيان، وهي المنفصلة قبل أيام عن «هيئة تحرير الشام» وذهب الترحيب حد المزاودة على التنظيم عندما أكد بيان الزنكي «على ضرورة أن تكون الحاكمية لله سبحانه وتعالى، والمرجع الوحيد لذلك المشروع (الإدارة المدنية) هو الشريعة الإسلامية».
ومقترح «الإدارة المدنية» محكوم بالفشل بلا شك، وإدارة جيش الفتح التي تأسست بعد طرد النظام من ادلب، بهدف إدارة المدينة خير مثال على أسلوب الفصائل الفاشل في إدارة الحياة العامة والخدمية. وهو ما أدى إلى وجود ثلاث إدارات مدنية متصارعة تتبع الفصائل أخرت تشكيل مجلس محلي لمدينة ادلب سنتين متتاليتين، دفع ثمنه أهالي ومدنيو المدينة باهظا بسبب وجود جبهة النصرة وجند الأقصى في «إدارة خدمات جيش الفتح». إذ قاطعت الدول الداعمة المنظمات المدنية في ادلب ولم تقدم لها مساعدة تذكر، واقتصر الدعم على منظمتين فقط، لكن الدعم المقدم لم يكن كافيا لسد الحاجات البسيطة للمدينة التي فيها أكبر تعداد سكاني في كل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي استقبلت كل المدنيين الخارجين من مناطقهم بسبب اتفاقات الهدن المحلية مع النظام. وسترفض كل المؤسسات الثورية أو منظمات المجتمع المدني الآن، التعامل بأي صيغة مع «جبهة النصرة» المصنفة على لوائح واشنطن كمنظمة «إرهابية» باستثناء قلة من المنظمات الممولة من تيارات سلفية خليجية.
وينطبق الأمر على كل مجالس المدن في الشمال السوري وهو ما كان واضحا في اقتصار الدعم لمجالس المدن والبلدات على مجلسي معرة النعمان وسراقب. فيما توقف الدعم عن قرابة 160 مجلسا آخر بسبب هيمنة «جبهة النصرة» عليها أو «جند الأقصى» قبل انتقاله إلى مناطق سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية».
ومع إعلان وقف برنامج دعم المعارضة المعتدلة الذي ترعاه أمريكا مع دول أصدقاء الشعب السوري، ووقف المساعدات العسكرية قريبا عبر غرفتي «الموم» في الشمال، و»الموك» في الجنوب، ستدخل المناطق المحررة في حالة صعبة على المستويين العسكري والإنساني، خصوصا مع ترافق الدعم الإنساني للمناطق التي تتواجد فيها المعارضة المعتدلة، ووقف البرنامج العسكري الذي تشرف عليه وكالة المخابرات المركزية، وسيؤدي ذلك إلى اضعاف فصائل الجيش الحر، الضعيفة أساساً، وسيسمح للقاعدة السيطرة على مزيد من المناطق في الشمال السوري. وهي بشكل طبيعي تسيطر على المعابر الداخلية بين مناطق سيطرة المعارضة ومناطق سيطرة النظام، ومعابر النفط التي تأتي من مناطق سيطرة تنظيم «الدولة» وصولا إلى «درع الفرات» ووحدات حماية الشعب، في دارة عزة تحديداً.
فهذه المعابر تسهم بالكثير من العائدات، إضافة إلى سيطرة «جبهة النصرة» على خط الكهرباء القادم من مناطق النظام، حيث تقوم ببيعه إلى مستثمرين محليين يقومون بدورهم ببيعه بواسطة اشتراكات في أغلب مناطق ادلب، ولعل بدء الحرب بين «النصرة» و»أحرار الشام» هو اعتراض الأخيرة على تلك العملية بأشكال مختلفة كان آخرها تفجير برجين للتوتر العالي في ريف ادلب الجنوبي.
سياسة النصرة المقبلة
بعد الكثير من الاحتكاكات التي حصلت يبدو أن «جبهة النصرة» ستخفي عصاها الغليظة في المناطق التي شهدت احتجاجا كبيرا ضدها، مثل معرة النعمان، والأتارب وسراقب. وستلجأ إلى القوة الناعمة والتسلل إلى المفاصل الأكثر تحكما بشؤون الناس كهيمنتها على «المحاكم الشرعية» كجزء من اخضاع مناهضيها وتلفيق دعاوى وتهم لهم، يساعدهم بعض الوجهاء والمشايخ التقليديين الذين يبحثون عن دور لم يكن متوفرا في المرحلة السابقة، وهو الشيء ذاته الذي حصل مع بدء ظهورها إلى العلن في منتصف 2013. حيث بدأت تعين قضاة شرعيين يتبعون لها في أغلب المحاكم، لكن فشل تلك المحاكم والضغط الشعبي وتصدي «أحرار الشام» تحديدا لها في قضية المحاكم قلص من نفوذها ولم يبق لها سوى دارين للعدل في سلقين والدانا. وهو ما بدا واضحا في كلمة الشرعي العسكري في «تحرير الشام» أبو اليقظان المصري، التي سربت مع السيطرة على معبر باب الهوى، إذ اتهم الهيئة الإسلامية التابعة للأحرار بالسيطرة على 14 محكمة شرعية مقابل محكمتين للهيئة.
وستلجأ للسياسة الناعمة في المناطق التي تتواجد فيها فصائل محلية جهوية قوية، مثل ريف حلب الغربي، واللطامنة، وقلعة المضيق وسهل الغاب، إضافة إلى بنش وكفر تخاريم واريحا وريفها الجنوبي، وسراقب ومعرة النعمان والأتارب.
بينما ستعتمد على ملاحقة العناصر المغادرة لحركة «أحرار الشام» والذين اعتزلوا القتال بهدف اخضاعها وبسط سيطرتها بشكل كبير، واستخدام مزيد من العنف في المناطق التي تسيطر عليها أساسا في جبل الزاوية، وسلقين وحارم بهدف إرهاب المدنيين والنشطاء كي لا يقفوا في مواجهتها كما حصل في المناطق الثلاث التي انتفضت في وجهها.
ووقف الدعم وتغيير خرائطه ستنعكس نتائجه على المدنيين بشكل أساسي، وسيساهم في زيادة شعبية «جبهة النصرة» وتعاد معه محاولة إعادة تعويمها في شكل خطير يشبه إعلان سيطرة «داعش» على المنطقة الشرقية.
ويبدو أن «جبهة النصرة» في الحالتين ستقطف ثمار المرحلة المقبلة على الأقل، فهي ان استمرت ستفرض أتاواتها على الجمعيات والمنظمات، وان توقفت ستعزز مناطق نفوذها.
- منهل باريش – القدس العربي
عذراً التعليقات مغلقة